سمير الزبن
في الحروب الإسرائيلية الكبرى التي غيّرت وجه المنطقة، واجهت إسرائيل فعلياً جيوشَ دولٍ عربية. كانت المرّة الأولى في العام 1948، وهي الحرب التي تأسّست على نتائجها دولة إسرائيل، التي تدّعي أنّها خلال تلك الحرب استطاعت هزيمة الجيوش العربية كلّها التي دخلت فلسطين لمنع قيام دولة إسرائيل ورمي اليهود في البحر. ولادة إسرائيل في ظلّ محيط معادٍ جعل إسرائيل دولةً قائمةً على السلاح. فمنذ ولادتها اعتبرت نفسها دولةً مُهدَّدةً بالإزالة من الأعداء المحيطين بها، لذلك كان التفوّق العسكري، الذي عملت (وتعمل) عليه أساس وجودها في المنطقة. وبقيت طوال العقود التالية لولادة دولتها تعزّز من هذه القوّة. أصابتها انتصاراتها على الجيوش العربية بالعنجهيّة والخيلاء، خاصّةً بعد حرب 1967، التي هزمت فيها جيوشَ ثلاث دول عربية، وغيّرت وجه المنطقة مرّة أخرى باحتلالها ما تبقّى من الأراضي الفلسطينية، وأراضيَ في كلّ من مصر وسورية.
قامت الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية على قاعدة هذا التفوّق العسكري، الذي يفترض نقل مكان المعركة إلى أراضي العدو، وحسمها بسرعة. جاءت هذه الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية على خلفية أنّ المخاطر التي ستتعرّض لها إسرائيل ستأتي من جيوش الدول المحيطة، وأنّ إسرائيل لا تتحمّل حروباً طويلة الأجل. لم تغيّر حرب 1973، والإنجازات التي حقّقها جيشا مصر وسورية في بداية الحرب، من هذه العقيدة العسكرية، لأنّ هذه الحرب سرعان ما تحوّلت لصالح إسرائيل، واستخدمت عقيدتها العسكرية ذاتها بمساعدة جسر جوي أميركي للسيطرة على الحرب وعكسها لصالحها، وهذا لم يغيّر ممّا اعتُبِر في إسرائيل فشلاً استخباريّاً بعدم معرفة الخطط العسكرية لكلٍّ من مصر وسورية للهجوم على إسرائيل. وسكرة النصر والخيلاء التي أصابت إسرائيل بعد حرب 1967 هي التي جعلت الفشل الاستخباريّ الإسرائيلي ممكناً، بعد أن اعتُبِر الجيش الإسرائيلي “الجيشَ الذي لا يُقهَر”.
تسعى إسرائيل إلى قتل أكثر ممّن قتلتهم خلال تاريخ الصراع، قبل أن تعلن نصرها على جثثهم
واحدة من الأسس التي بنيت عليها العقيدة العسكرية الإسرائيلية، عدم رؤية حقيقة الصراع في الأرض الفلسطينية، بوصفه صراعاً بين قوات احتلال وشعب مُحتَلّ، بل أصرّت هذه العقيدة على أنّ العدو هو جيوش الدول المحيطة. لذلك لم تغيّر عقيدتها العسكرية عندما بدأت تواجه مخاطرَ الهجمات المسلّحة المنخفضة، مع بدء العمل الفلسطيني المسلّح، أي إنّها لم تعد تواجه جيوشاً كبيرةً، هزيمتها في ميدان المعركة تجعلها توقّع اتفاقات وقف إطلاق النار على الأقلّ، إذا لم نقل اتفاقات استسلام. أمّا القوى التي تستخدم الصراعات المنخفضة، فهي لا تخوض حروبها على قاعدة الهزيمة والنصر في ميدان المعركة، لأنّه لا يوجد معركة بالمعنى التقليدي (جيشان يتواجهان في ميدان معركة)، بل هي مجموعات مسلّحة، تحاول إيقاع الخسائر الصغيرة والمتراكمة بالعدو، وصولاً إلى إنهاكه، وليس لدى هذه القوى أيّ أوهام بأنّ لها القدرة على هزيمة جيش العدو في معركة مباشرة ومفتوحة، فهي تعرف أنّ ميزان القوى مختلّ أصلاً لصالح هذا العدو، ويستطيع أن يسحقها في ميدان الحرب التقليدية، لذلك تعتمد على ميّزات حرب العصابات التي تتجنب المواجهة المباشرة، التي تعمل من خلال المواجهات السريعة والحركة السريعة للمجموعات الخفيفة على ضرب العدو والفرار، والتفوّق على جيش العدو المجهّز بالمعدّات والأسلحة الثقيلة بسرعة الحركة، والمناورة أفضل بالأسلحة الخفيفة. لكن ما يمنح القوّة لهذه الجماعات، أنّها تبني عقيدتها على أساس الحقوق الوطنية، وليس على أساس القوّة العسكرية، وهذا النوع من الصراعات لا يُحَلّ بالقوة العسكرية، بمعنى لو استطاعت إسرائيل إبادة قوّة مقاومة للاحتلال من دون حلّ أساس المشكلة، فإنّه سيُولد من رحم المشكلة قوّةٌ أخرى تتحدّى هذه الآلة العسكرية، ما دام أنّ أساس الصراع قائم. تدرك إسرائيل المعضلة التي تواجهها، فهي تريد الانتصار المرّة بعد الأخرى من دون الذهاب إلى أيّ حلّ سياسي، وبذلك عليها أن تجد حلولاً عسكريةً لمشكلات سياسية، وهو ما يعني إدارة الصراع، والحصول على مكاسبَ صغيرةٍ ومتراكمةٍ لتفكيك أساس المشكلة، وهو ما تفشل به المرّة بعد الأخرى.
عدم الاعتراف بأساس المشكلة، والعنجهية والصلف بالتفوق على المحيط كلّه، جعل إسرائيل تفشل مرّةً جديدةً في توقّع المخاطر، وهذا ما حدث في هجوم “طوفان الأقصى” الذي لم تتوقّعه إسرائيل، وكشف ثغراتٍ واسعةً في البينة الأمنية الاسرائيلية المتفوّقة. وبعد ذلك لم تعد إسرائيل قادرةً على تجاهل هذه المخاطر، واعتبرت ما جرى محاولةً لإبادة إسرائيل. وهو ما جعل العديد من قياداتها تنزع عن الفلسطينيين إنسانيتهم؛ “وحوش بشرية”.
تريد إسرائيل الانتصار من دون الذهاب إلى أيّ حلّ سياسي فتبحث عن حلولٍ عسكريةٍ لمشكلات سياسيةٍ
وبعد هذا الحدث لم يعد النصر الإسرائيلي ممكناً، ليس لأنّها غير قادرة على القضاء على حركة حماس فحسب، وهو هدف غير عسكري، بل حتّى بالقضاء عليها لن تحصل على النصر الذي تريده باختفاء الفلسطينيين. فكانت حربها على قطاع غزّة حرب إبادة جماعية، فأصبح اغتيال أحد قياديّي “حماس” ممكناً بين المدنيين، فلم يتورّع الجيش الإسرائيل عن قصف خيم النازحين، بحُجَّة أنّ هناك قياديّاً بينهم. وأصبحت ذريعة أنّ “حماس” تستخدم المدنيين دروعاً بشريةً مبرّراً لإبادة جماعية للمدنيين. تقول الإحصاءات الفلسطينية إنّه منذ العام 1948، حتّى العام 2020، سقط من العرب والفلسطينيين في الجبهات كلّها، من عسكريين ومدنيين، حوالي مائة ألف قتيل. واليوم في حرب الإبادة، التي تشنّها إسرائيل على قطاع غزّة، سقط حتّى كتابة هذه السطور 41615 شهيداً، ولا أحدَ يعرف عدد الذين تحت أنقاض المباني التي دمّرتها القذائف والصواريخ الإسرائيلية في القطاع. لم تنتهِ الحرب، ولم ينتهِ عدّ الضحايا، ويبدو أنّ إسرائيل تسعى لقتل أكثر ممّن قتلتهم خلال تاريخ الصراع، قبل أن تعلن نصرها على جثثهم. فما زالت تواصل حربها على قطاع غزّة وعدد الضحايا في ازدياد. حتّى العمليات التي اعتبرتها إسرائيل عمليات اغتيال (مثل محاولة اغتيال محمّد الضيف في 13 يوليو/تمّوز في مواصي خانيونس) أدّت إلى مقتل ما يزيد عن 90 فلسطينياً، وجرح 300 آخرين. كما أنّ إسرائيل في اغتيالها أمين عام حزب الله، حسن نصر الله، استخدمت باعترافها 80 قنبلةً تزن واحدتها ألف كيلوغرام؛ أي 80 ألف كيلوغرام من القذائف الخارقة الشديدة الانفجار، التي سوَّت بالأرض أربعةَ مبانٍ يعيش فيها مئات السكّان، هل يمكن اعتبار هذه عمليات اغتيال أم عمليات إبادة جماعية؟
لقد باتت واضحةً عمليات الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل أمام أنظار العالم الذي لا يريد أن يفعل شيئاً، في مواجهة جرائم الإبادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل بذريعة “الدفاع عن الذات”، التي تعني في إسرائيل إبادة الآخر. والعالم لا يريد أن يرى ما يفقأ العين.