أحمد مظهر سعدو
بدأ اعتصام الكرامة في الشمال السوري منذ الأول من شهر يوليو/ تموز الفائت، تضامناً وتعاضداً مع انتفاضة السويداء وجبل العرب وحراكهما، ومراكمة للعمل المناهض لنظام بشار الأسد، حينها لم يكن أحد (في تلك الآونة) يتوقع لهذا الاعتصام الاستمرارية أو الامتداد، بالنظر إلى صعوبة العمل، خاصة التظاهرات السلمية، في وجود فصائل معارضة عسكرية محيطة، ومسيطرة على المشهد الميداني بكليّته، وقد تعتبر بعض هذه الفصائل أن انتفاضة الناس سلميّاً من الممكن أن تبدو وكأنها في مواجهتها، من أجل كبح جماح تغولها على الحالة المدنية في الشمال خارج سيطرة النظام، ومن ثم ربط مسألة الحراك والمناهضة، فيما تقوم به هذه الفصائل من أعمال وهيمنة، وفقط من حيث إن أي حراكٍ خارج إطارها، قد لا يكون من المسائل التي تفرحها أو تثلج صدرها، أو تكون راضية عنه، خصوصاً أن اعتصام الكرامة في الشمال السوري جاء بالتساوق مع حالة التطبيع التركي الماضية، رغم كثرة الصعوبات المتوفرة نحو إعادة العلاقة مع نظام بشّار الأسد، وردم الهوة الكبيرة بينهما، وإعادة فتح طرقات الترانزيت، وعودة اللاجئين السوريين، وتعميم الحالة الأمنية التي لا تقلق الأتراك، عبر تحرّكات مشبوهة وخطرة على الأمن القومي التركي، من حزب العمّال الكردستاني في شمال شرق سورية. لكن استمرار اعتصام الكرامة في الشمال السوري، واتساع رقعته، والعمل حثيثاً على صياغة (وإنتاج) أوراق ومناهج عمل، وخطط للمتابعة، وصولاً آمناً إلى اليوم التالي، الذي يلي الحراك والاعتصام، دفع بعضهم إلى تلمس رأسه، والتخوف من أن يصبح الاعتصام حالة شعبية كبرى قد تمتد إلى محافظة إدلب ومناطقها، وكل مساحات الشمال السوري وأريافه، وهو ما يحصل بالفعل حاليّاً، حيث نشهد حالة متميزة من الإصرار على الاشتغال والمراكمة والتطوير في آليات العمل، ووصل ما انقطع من علاقة مع باقي الساحات، ومنها محافظة السويداء وجبل العرب التي تجاوزت السنة ونيفاً في حراكها الشعبي المهم، وأنتجت ما أنتجت من فعلٍ جدّي مناهض ومنتفض ضد سلطات الطغيان الأسدي.
ما يلفت النظر هذه الأيام في حراك (واعتصام) الكرامة في الشمال السوري اشتغال ناشطيه حقيقة وبجهد متواصل، على إنجاز ما يمكن أن يؤسّس بالفعل لجسم سياسي تنظيمي يريد واقعيّاً أن يعوض كل ما فات ويتساوق وينسجم مع أهداف الثورة السورية التي انطلقت أواسط شهر مارس/ آذار 2011 ثورة الحرية والكرامة، وينتج شكلاً جديداً حداثيّاً من العمل المنظم، مستفيداً من تجارب السوريين السابقة، عبر العمل على ما سمّي “المجمع الانتخابي” في الداخل السوري، الذي يعوّل عليه متابعون كثيرون (ملء الفراغ) وإعادة الاعتبار لكينونة الثورة السورية وتغيراتها، ولجم كل المحاولات التي تعمل تحت الطاولة باتجاه وقف الحراك والاعتصام، وهو ما يضع الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية أمام استحقاقات جدّية تشير إلى احتمالات وجود وانبثاق بدائل للمعارضة الرسمية السورية الموجودة حاليّاً، التي تعثرت كثيراً في غير مكان وجملة مواقف وتحرّكات، ثم وقعت كثيراً، قبل أن تتمكّن من فعل أي إنتاج جديد يواكب، بل يرتقي إلى مستوى الدم السوري المراق منذ أكثر من عقد، على يد المجرم المستبد بشار الأسد ومليشياته وتوابعه. وهناك من يتطلع حقيقة إلى احتمالات كبرى، فيما لو نجح الحراك والاعتصام، إلى ظهور جسم سياسي سوري معارض، ويمثل واقعيّاً، وليس شكليّاً، كل الساحات السورية، وكل ألوان الطيف السياسي، وفسيفساء الحالة المجتمعية السورية، وهو ما يجعل المعارضة الرسمية السورية في حالة فوات وقلة حيلة ولا جدوى، أمام فعل جماهيري حقيقي على الأرض في الشمال السوري.
لا يمكن أن تنجح أية ثورة تعتمد على الخارج، أو أن توجد في ساحات الدول خارج سورية، لأنها سوف تتأثر بالضرورة بمصالح تلك الدول
ولعله من المسائل المهمة والأكثر حنكة سياسية وإمكانية احتمالية للنجاح ما أعلنه المشاركون في اعتصام الكرامة أنهم ما زالوا يصرّون على أن العمل نحو إنتاج جسم سياسي سوري متماسك وهيئة عامة للحراك والثورة، لا بد أن يبقى محصوراً ضمن نشطاء الداخل السوري، انطلاقاً من فكرة تقول: إنه لا يمكن أن تنجح أية ثورة تعتمد على الخارج، أو أن توجد في ساحات الدول خارج سورية، لأنها سوف تتأثر بالضرورة بمصالح تلك الدول، وأيضاً في سياساتها، وهذا ما سيعيد إنتاج إشكالات المعارضة السورية وعثراتها، وسيجعل حالة وإمكانية الخروج من عنق الزجاجة، صعباً للغاية، بل مرتبطاً في جملة حالات التطبيع الجارية الآن مع نظام بشار الأسد، وتلك المصالح الإقليمية المنجدلة معه.
يبدو أن اليوم التالي لاعتصام الكرامة في الشمال السوري، وفيما لو تمكن واقعيّاً من إنجاز المأمول منه، ثم إعادة تأسيس بدايات العمل لإنتاج الجسم التنظيمي المراد، خاصة لو تمكن من التمسك باستقلاليته، وعدم الارتهان كلية للضغوط المحيطة به، حيث تحاصرهم الفصائل العسكرية من كل حدبٍ وصوب، ولو استطاع أهل الاعتصام الاستفادة عمليّاً من حالة الخلاف الموجودة بين الفصائل، وأيضاً مع الحكومة السورية المؤقتة، ومن ثم الائتلاف الوطني، فيمكن إبّان ذلك أن يؤمل منها ما هو جديد لتعود الهوينى إلى عملية بناءات جديدة، وقادرة على تكوين حالة تنظيمية متماسكة ورصينة، حيث (وحتى الآن) فشلت كل المحاولات التي سبقت ذلك من أن تؤتي أُكلها ضمن واقع وحالة الاستنقاع السوري الصعب.
تشكيل الهيئة العامة المنتخبة للثورة السورية المنبثقة عن فعل الاعتصام المشار إليه، بعيداً كل البعد عن تلك المحاصصات، التي سبق أن عانت منها كثيراً أجسام المعارضة، وإعادة رسم ملامح مستقبل جديد للسوريين، يساهم في أن تدخل الثورة السورية عامها الجديد بعد أشهر قليلة، وهي أكثر تفاؤلاً وتطلعاً إلى المستقبل الأفضل، حيث يمكن أن يعطي ذلك أملاً متجدّداً نحو مستقبلات أرحب للسوريين، وحيوات أنجح لكل الشعب السوري، في كل الساحات، مهما كانت المعاناة من عسف وقمع واعتقال مستمرّة من نظام بشار الأسد المستبد.
المصدر: العربي الجديد