حسن النيفي
أخفقت ثورة السوريين – بفعل عوامل كثيرة – في تحقيق منجزها المنشود المتمثل بالتغيير السياسي حتى الآن، ولعل أهم عوامل هذا الإخفاق تمثل في التدخل الدولي المتعدد الوجوه والأشكال في معظم الجغرافيا السورية، والذي مضى في الازدياد والتبلور واتخذ تموضعه بتقسيم البلاد إلى مناطق نفوذ تديرها كيانات تابعة للدول الخارجية الراعية لها، بما في ذلك سلطة نظام الأسد التي لم تعد بمعزل عن سطوة حلفائها من الإيرانيين والروس.
وقد كان لهذه الحالة تداعيات كبيرة على الرأي العام السوري، وخاصة قطاعات النخب السياسية والثقافية وكذلك الناشطين، من جهة الانشطار الذي بات واضحاً بين اتجاهين يسير كلٌّ منهما في مساره، ولم تكن هناك إمكانية لإقامة نوع من التكامل بينهما. ذهب الرأي الأول إلى أن تعدد عوامل إخفاق الثورة، وإنْ غلب عليه الطابع الخارجي بفعل تدخل الدول من جهة، واختراق التنظيمات الإسلامية المتطرفة لقوى الثورة من جهة أخرى، إلا أن هشاشة المناعة الداخلية لقوى الثورة هي التي عززت من قدرة العوامل الخارجية، وبالتالي مكّنتها من أن تفعل فعلها الذي تريد.
وبالتالي، فإن أي محاولة تهدف إلى مقاربة جديدة للقضية السورية ينبغي أن تبدأ من مبادرات السوريين أنفسهم، أي من استعادة المبادرة من جديد بغية تشكيل نواة وطنية جاذبة أو قادرة على إقناع الأطراف الدولية الخارجية بجدوى استمرارية النضال السوري من أجل التغيير.
في حين رأى أصحاب الرأي الثاني أن تعاظم النفوذ الدولي في سوريا وخضوع الجغرافيا السورية لمناطق نفوذ بات إنذاراً حاسماً بأن القضية السورية باتت خارج إرادة السوريين، فضلاً عن أنه يحول دون التماس أي نتيجة من التعاطي مع الحالة السياسية المباشرة أو الميدانية. ومن غير المجدي – في هذه الحال – استهلاك الجهود والبحث عن الشيء في غير مكانه، ولعله من الأجدى التوجه إلى الدول المؤثرة ذات المصالح المتعددة في سوريا، وانتظار ما سيسفر عنه صراع المصالح.
إن أي محاولة تهدف إلى مقاربة جديدة للقضية السورية ينبغي أن تبدأ من مبادرات السوريين أنفسهم، أي من استعادة المبادرة من جديد بغية تشكيل نواة وطنية جاذبة أو قادرة على إقناع الأطراف الدولية الخارجية بجدوى استمرارية النضال السوري من أجل التغيير.
اختلاف التوجهات والنتائج واحدة
وفي الوقت الذي مضى فيه أصحاب الرأي الأول نحو العمل على تشكيل البنى السياسية المتمثلة في الأحزاب والمنظمات والتجمعات، وإيجاد منابر لندوات وحوارات، وكذلك لعقد مؤتمرات بهدف إيجاد مظلة سياسية جامعة أو إقامة أشكال من التنسيق السياسي بين القوى السياسية الوطنية، فإن أصحاب الاتجاه الثاني مضوا في الاكتفاء بتتبع ومراقبة السياسات الدولية والتغيرات الطارئة على مصالح تلك الدول باعتبارها المحرك الأهم للمواقف، موازاة مع الشروع في البحث عن مستقبل سوريا المنشودة، من خلال النشاط الملحوظ لمراكز الأبحاث والمنصات الفكرية والثقافية الأخرى. إذ اتجهت الجهود نحو عقد حوارات وإنتاج دراسات تهدف إلى استجلاء ما يمكن أن تكون عليه سوريا في المستقبل.
لعل هذا التباين في التوجهات التي شطرت نشاط السوريين قد أسهم في شيوع كثير من الحساسيات والمناكفات التي جعلت كل طرف لا يرى صحة وسلامة رأيه بما يحققه من منجزٍ ما، بل بقدر ما يكيله للطرف الآخر من اتهامات. وهكذا راح الاتجاه الأول يطلق على نظيره الثاني النخب المستعلية والانتهازية التي يدفعها عجزها وفشلها إلى التسكع أمام السفارات واستجداء المواقف الدولية، كما أن انهماك تلك النخب بالبحث عما ستكون عليه سوريا في المستقبل هو كمن يضع العربة أمام الحصان، إن لم يكن هروباً عن مواجهة استحقاق أهم يتمثل بإزالة نظام الأسد أولاً.
وفي موازاة ذلك لا يرى أصحاب الرأي الثاني في عمل الآخرين سوى أنه تعبير عن رغبوية في التفكير لا تحظى بأي حوامل حقيقية على أرض الواقع، بل ربما نعتها البعض بالنزعة الشعبوية التي غالباً ما تؤخذ بالعواطف والمشاعر بدلاً من اللجوء إلى التفكير المعمق.
واقع الحال يؤكد أن كلا الطرفين يشاطر الآخر في مسألة مهمة، وهي أن كليهما مضى في اتجاهه الذي ارتضاه دون أن يكون له ما يعزز خطواته من أوراق قوة.
وبالتالي فلا استطاع أصحاب الاتجاه الأول تحقيق منجز تنظيمي يتمثل بجسم سياسي مؤثر ويحظى بقابلية سورية واسعة، ولا أفلح – كذلك – في إيجاد شكل أو أشكال من التنسيق الوازن بين قوى وأحزاب أو تيارات وطنية. وبعد سنوات من الجهد المتواصل فما يزال خالي الوفاض سوى من الحماس والاندفاع الذي لا يثمر من دون نتائجه الملموسة على الأرض.
أما الاتجاه الثاني فلا هو أفلح في اختراق أي موقف دولي له تأثيره في الشأن السوري، ولا دراساته وبحوثه ووثائقه حول مستقبل سوريا أقنعت الأطراف الدولية بتغيير مواقفها. وعند هذا الإخفاق يتساوى الطرفان معاً، بالطبع ثمة حالة مغايرة للاتجاهين معاً تجسدت بالجهود التي بذلتها الجالية السورية في أميركا والتي أسفرت عن صدور قانون قيصر وكبتاغون، وكذلك لا يمكن إغفال الجهد الحقوقي الذي يبذله العديد من الناشطين الحقوقيين السوريين في دول أوروبا سعياً لمحاكمة أزلام النظام ومن تلطخت أيديهم بدماء السوريين. فتلك حالات خارجة عن سياق الاتجاهين اللذين نعنيهما في كلامنا.
لعل الحصاد الأكبر لهذا الانشطار والتشظي في العمل الوطني السوري يحصده اليوم جميع السوريين.
هل كانت ثمة فرصٌ مناسبة؟
كانت هناك فرصة ثمينة يمكن أن تكون منطلقاً لمسار تكاملي بين الاتجاهين المتنابذين، وأعني بذلك الحراك الشعبي في السويداء الذي انطلق في منتصف شهر آب من العام الماضي، وكذلك الحراك في الشمال السوري (اعتصام الكرامة) الذي انطلق في بدايات شهر تموز من العام الجاري. إذ كان يمكن لهذا الحراك في جنوبي البلاد وشماله أن يكون نواة مادية يمكن البناء عليها سياسياً من جانب القوى الوطنية، وخاصة أن ما يفتقر إليه هذا الحراك هو تمثيله في أطر سياسية قادرة على الانتقال به من الطور الثوري إلى الطور السياسي.
ولكن المؤسف أن انتفاضات السوريين في الداخل ما تزال تلقى تجاهلاً حقيقياً من معظم القوى والشخصيات والفعاليات الثقافية والفكرية عموماً. ويبدو أن الخذلان الذي واجهته انتفاضة السوريين إبان انطلاقتها في آذار 2011 من جهة افتقادها للأحزاب والقوى السياسية القادرة على أن تكون حاملاً سياسياً حقيقياً لثورة السوريين، هو ذاته الخذلان الذي يواجه الحراك الشعبي الراهن من جهة استمرار حالة اليتم السياسي.
لعل الحصاد الأكبر لهذا الانشطار والتشظي في العمل الوطني السوري يحصده اليوم جميع السوريين. فمنذ اندلاع المواجهات المباشرة بين الكيان الصهيوني وحزب الله اللبناني في أوائل الشهر الحالي، بات مصير سوريا هو الشاغل الأبرز لدى السوريين. فماذا لو تحققت هزيمة الذراع الإيراني عسكرياً في لبنان ولاذت بقية فلوله إلى سوريا، وأصبحت سوريا ساحة حرب بين إيران وإسرائيل؟ وماذا لو بات رموز نظام الأسد هدفاً إسرائيلياً، أو توغلت إسرائيل في العمق السوري؟ بل لنذهب أبعد من ذلك ونقول: ماذا لو تداعى بشار الأسد ورموز حكمه بين الأرجل في تلك المعركة المفترضة؟ ومع تعدد الاحتمالات والمآلات المتوقعة يمكن التساؤل: ما هي خيارات قوى الثورة والمعارضة – العسكرية والسياسية – في سوريا؟ وما هي الخطط والاستراتيجيات التي قامت بإعدادها لمواجهة أي من تلك الاحتمالات أو سواها؟ ألسنا نحن أصحاب الأرض؟
لعلنا لا نلام – نحن السوريين – على نشوتنا بافتضاح أكذوبة العصر (محور الممانعة والمقاومة) باعتبارها وقيعة يتطاحن فيها عدوان كلاهما أوغل في دمائنا وتسبب في نشوء مأساتنا. ولكن الاستسلام لتلك النشوة والبراعة في التحليل الاستراتيجي على الشاشات ووسائل الإعلام دون مبادرات عملية فاعلة ومؤثرة، ربما يمضي بنا نحو مآسٍ أخرى.
المصدر: تلفزيون سوريا