أحمد مظهر سعدو
عُقد مؤتمر بروكسل (25 – 26 أكتوبر/ تشرين الأول 2024) تحت اسم “المسار الديمقراطي السوري”، بدعوة من قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات للإدارة الذاتية، إلهام أحمد، تلته ضجّة كبيرة، خاصة بعد مشاركة عديد من أهل اليسار السوري أو ممّن كانوا يُحسبون عليه، ضمن حالة تلاقٍ واندماج واضحة مع مسار وتحرّكات “قسد” سلطةَ أمر واقع في شمال شرقي سورية، وما تحمله من مخاطرَ جمّة على وحدة سورية السياسية والجغرافية، باعتبار أن فكرة وشعار “روج آفا” كانت (وما زالت) المعيار الأساس لرايات كلّ من اشتغل مع “قسد”، أو تم إدراجه عنوةً، أو برغبة منه، تحت هذه اليافطة لـ”قسد”، بدعم أميركي واضح، تأسيساً على ما جاء ضمن حيثيات وتصوّرات مركز راند للدراسات الأميركية، منذ سنوات، نحو تفتيت سورية وإعادة صياغة المنطقة ورسم خرائطها، ومنها بالضرورة الإقليم السوري، على أسس عرقية أو إثنية أو طائفية.
يبدو أن اللقاء في العاصمة البلجيكية، الذي جاء استكمالاً لما حصل في مدى دورات وسنوات متتابعة قبل ذلك (في استوكهولم)، لم يكن عفو الخاطر، ولا بالمصادفة، وليس كما أُعلِن في حينه “من أجل توحيد الرؤى السورية لإنتاج وحدة العمل الوطني السورية”، بل لعلّ وراء الأكمة ما وراءها، وهي تؤسّس اليوم، وإبّان مشاركات جمّة في هذا المؤتمر، من شخصيات سورية كانت محسوبةً على العمل الوطني الديمقراطي السوري، وعملت ضمن أُطر المعارضة الوطنية الديمقراطية السورية لسنوات طوال. واليوم، إذ تشارك هذه الشخصيات في مؤتمراتٍ كهذه، فهي تؤسّس لما بعده، وتسهم حقيقةً (وعت ذلك أم لم تعيه، أدركت ذلك أم لم تدركه) في إعادة إنتاج حالة جديدة من التشظّي والتفتت السوريين، وهي بذلك إنّما تعترف بقوى الأمر الواقع، ونعني تشكيل “قسد”، التي قامت على أسّس انفصالية بحتة، وساهمت في مزيد من الخلل الذي اعترى واقع السوريين، وهي التي ما زالت تمدّ يداً لأميركا، وأخرى لروسيا، وثالثةً للنظام السوري، علناً أو تحت جنح الظلام، وتمارس القطيعة والتضادّ مع أنواع المعارضة السورية كلّها، بل تحاربها عسكرياً، سواء في داخل أتون حيّزها الجغرافي، شمال شرقي سورية، أو في حدود ذلك، وليس بعيداً منها ما فعلته من قتل وتهجير لقرى عربية كثيرة وكبيرة، وكذلك زجّ كلّ من يعارضها في السجون، سواء كان المعارض كردياً أو عربياً. وفي هذا المنحى، لا تختلف سياساتها أبداً عن سياسات النظام السوري ضدّ معارضيه ومناوئيه.
ما زالت “قسد” تمدّ يداً لأميركا، وأخرى لروسيا، وثالثةً للنظام السوري، علناً أو تحت جنح الظلام، وتمارس القطيعة والتضادّ مع أنواع المعارضة السورية كلّها
ولعلّ المشاركة في مؤتمر “المسار الديمقراطي”، من بعض الشخصيات السورية، التي كانت محسوبةً يوماً على العمل الوطني الديمقراطي، يجعل كثيرين يصرّون عليها بالتساؤل إذا ما كانت هذه الشخصيات تقبل وتهلّل لـ”قسد” قوة أمر واقع، فكيف عن حالات أخرى مشابهة، كما هو الحال في إدلب مثلاً؟ هل يمكن أن يفتح المجال للتعاطي مع قوة الأمر الواقع التي تحكم محافظة إدلب وما حولها الآن، وهي بالطبع هيئة تحرير الشام بزعامة أبو محمد الجولاني؟ ومن ثمّ ما هو الفرق بين هذه وتلك؟… إلّا إذا كان الفرق هو موافقة أميركية على الانضمام إلى “قسد” ومؤتمراتها، بينما هو مع قوى الأمر الواقع في مناطق أخرى لم تتوفّر أميركياً بعد.
تشكل المشاركة في مؤتمر بروكسل/ “المسار الديمقراطي”، بما أنتجته من رؤية سياسية، خطورة حقيقية على العمل الوطني الديمقراطي السوري المناهض للاستبداد الأسدي، والمُنافي لثورة الحرّية والكرامة. ولأنه كذلك، فقد لاقى هذا المؤتمر ضجّةً كبيرةً، ورفضاً من لدن عشرات التنظيمات والقوى والأحزاب والتجمّعات السورية، وأيضاً من أعداد كبيرة من قطاعات واسعة من السوريين، نشطاء ونُخَبٍ، عبر بيانات كثيرة وقّعت، تعلن رفضها هذا المنتج الذي لا يساهم في الخروج من عنق الزجاجة، ولا يحرّك حالة الاستنقاع الصعبة، التي وصل إليها واقع السوريين بعد أكثر من 13 عاماً من حراكه لتحقيق المراد وطنياً وشعبياً، وتوحيداً من أجل إقامة سورية الديمقراطية، بل إن مؤتمر بروكسل يسهم في زيادة التبعثر، والاستمرار في اتساع الشرخ الشاقولي، والمزيد من التلطّي عند أبواب الآخر الخارجي، بعيدا عن ملاقاة جدّية للعمل الوطني الديمقراطي السوري الحقيقي، من أجل سورية الموحّدة بلا آل الآسد.
المشاركة في مؤتمر بروكسل، بما أنتجته من رؤية سياسية، تشكّل خطورة على العمل الوطني الديمقراطي السوري المناهض للاستبداد
والحقيقة التي يدركها السوريون أن “قسد”، ومجلس سورية الديمقراطية (مسد) ومعهما إلهام أحمد، ومن مشى في ركبهم، ما زالوا يشكّلون خطراً كبيراً على وحدة سورية أرضاً وشعباً، وما انفكّوا يخدمون مليشيا جاءت من جبال قنديل شمال العراق، وبعيدون تماماً عن مسارات الثورة السورية، إذ يدرك الجميع كيف أفشل أهل “قسد” و”الاتحاد الديمقراطي” وجودهم في هيئة التنسيق لقوى التغيير الديمقراطي، وخرجوا منها رغم رخاوة رؤيتها السياسية، وعدم تشدّدها، ثمّ التفّوا على “هيئة التنسيق” مرّة أخرى منذ سنتين أو يزيد، عندما حاولت الهيئة إعادتهم عبر التوافق على وثيقة وطنية، فأهملوا الوثيقة تلك، ورموها أرضاً عندما أحرجوا الهيئة بإعلانهم العقد الاجتماعي الذي يمثّل “قسد” ومن معها، بينما العقد الاجتماعي الذي كان يبتغيه السوريون، لا بدّ أن يكون معبّراً عن الشعب السوري كلّه، وتلويناته وتشكيلاته الإثنية والطائفية والقومية كلّها.
الانجرار اليوم إلى مؤتمرات مشبوهة، على شاكلة مؤتمر بروكسل المشار إليه، إنّما يسهم في مزيد من التذرّر والعبث في الحالة الوطنية السورية، ويعيد إنتاج دويلات المليشيا، ويؤسّس واقعاً لحالات تقسيم سورية، ويفتح المجال والباب على مصراعيه نحو مزيد من إقامة تكوينات لا وطنية أو ما قبل وطنية، بل أقلّوية، تعبّر عن مصالح ضيّقة ما قبل وطنية، وهي لا تقترب أبداً ولا تنسجم أو تتساوق مع آمال السوريين، إذ عملوا من أجلها لسنوات طوال، وضحّوا (وما يزالون) يضحّون في طريقها بما يزيد عن مليون شهيد، وأكثر من 900 ألف معتقل ومغيّب قسريّ، منذ 15 مارس/ آذار 2011، وتهجير أكثر من نصف الشعب السوري بين نازح إلى الشمال السوري أو مهجّر قسرياً إلى بلاد الله الواسعة.
المصدر: العربي الجديد