عمار ديوب
عقدت قوىً سياسيّةٌ سوريّةٌ (25 و26 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي) مؤتمراً سياسيّاً في بروكسل، وسعت في بيانها الختامي إلى أن تكون ممثّلةً للقوى الديمقراطية، باعتبار الأخيرة لا تحظى بالتمثيل الكافي في تيّارات المعارضة، وباعتبار أن الظروف السوريّة معقّدة للغاية؛ “تجزئة” و”تشرذم” و”انقسام”، بحسب البيان ذاته.
يتجاهل البيان أن القوى الديمقراطية كانت مُمثّلةً في هيئة التنسيق الوطنية منذ يونيو/ حزيران 2011، وكانت موجودةً (وبفاعليةٍ) في المجلس الوطني السّوري في أواخر عام 2011، وكان لها دورٌ أساسيٌّ في الدعوة إلى تشكيل الائتلاف الوطني لقوى المعارضة في عام 2012، وكذلك في مؤتمر قوى المعارضة الموسَّع في 2012 في القاهرة، ولكنّها، ولأسبابٍ تخصّها فشلت في أن يكون لها ثقلٌ فاعلٌ في مسرح الصراع. وبالتالي، سيطرت قوىً أخرى على الهيئات السّابقة الذكر، واستقلّ حزب الاتحاد الديمقراطي بنفسه في شرق سورية، هاجراً هيئة التنسيق الوطنيّة، وغير قادرٍ على أن يشكّل جهةً موثوقةً لاستقطاب السوريين، ورفضَ تمثيل القوى السياسية الكردية في الإدارة الذاتية، وفي قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ومجلس سوريا الديمقراطية (مسد). إذ وجد ضالّته في السنوات الأخيرة في شخصيات “ديمقراطية”، كانت وظيفتها الأساسية بالنسبة إلى “الاتحاد الديمقراطي” (وهو الأساس في “قسد” و”مسد” و”الإدارة الذاتية”) جذب كوادر عربيةٍ للعمل في هذه الهيئات ولا سيّما “مسد”، رئاسة مشتركة، إعلام، صحافة، عقد لقاءات ومؤتمرات في أوروبا للدعاية للهيئات السياسيّة أعلاه.
انعقد المؤتمر بعد ثلاث سنوات من اللقاءات المتكرّرة بهدف توحيد القوى الديمقراطية السوريّة، وانتهى إلى تشكيل أمانةٍ عامّةٍ تتكّون من 21 شخصية تدور في فلك “مسد”، ومنها 12 شخصية منتمية إليها. كانت أغلبية الحضور في المؤتمر من “مسد” و”قسد”، سواء أكان حضوراً فيزيائيّاً أم افتراضياً، وهذا يعبّر عن عدم ثقة الهيئات الكردية بالعرب المُستقطَبين فظلّت لها الغلبة الساحقة. وبالتالي، هذا المؤتمر يخصّ فقط حزب الاتحاد الديمقراطي، ولم تُدعَ إليه حتى أحزاب المجلس الوطني الكردي.
المؤتمر يخصّ فقط حزب الاتحاد الديمقراطي، ولم تُدعَ إليه حتى أحزاب المجلس الوطني الكردي
أثار بعض المدعوين قضايا ليست جديدةً، وإنما يُتطرَّق إليها منذ سنوات، مثل لماذا لا يقطع “الاتحاد الديمقراطي” علاقته الكاملة بحزب العمّال الكردستاني (الأول يُعدُّ ذراع الأخير في سورية)؟ ولماذا تسيطر “الإدارة الذاتية” على أغلبية ثروات سورية النفطية؟ وأين تذهب أموالها؟ ولماذا لا تتشكّل هيئة مستقلّة عن الإدارة الذاتية ولا توزّع العوائد على السوريين النازحين والمهجّرين، وعلى مختلف المناطق الخارجة على سيطرة النظام، أو تقام مشاريع اقتصادية لاستيعاب العمالة؟ … نستنتج، بالتالي، أنْ ليس هناك أيّ شفافية مالية، وهناك العلاقة السياسية والأمنية لـ”الاتحاد الديمقراطي” مع النظام، وهي علاقة قديمة قبل عام 2011، ولم تنتهِ، وهو ينسّق مع النظام في المناطق كافّة التي تسيطرا عليها “قسد” و”مسد”. أيضاً هناك، عدم الإصرار على الالتزام بالقرارات الدولية، وحتى في بيان بروكسل، أُورِد القرار 2254، من دون الإشارة إلى تشكيل هيئة حكم كاملة الصلاحيات، وهذا صلب محتوى القرار، وجرى تجاهل القرار 2118 الأكثر أهمّيةً، بينما كان بالإمكان الإشارة إلى القرارين وسواهما. لم تُناقَش المسائل السابقة، علماً أنّها من أكثر القضايا أهمّيةً أثيرت مع “قسد” و”مسد” من الأميركيين والأتراك والعرب السوريين، وهذا يعني أن “الاتحاد الديمقراطي” يرفض حتى الضغط الأميركي باتجاه إنهاء العلاقة مع حزب العمّال الكردستاني، ويضع نفسه في جفاءٍ كبيرٍ مع الدول والسوريين بمن فيهم الأكراد (!)
هل حاول مؤتمر بروكسل ملاقاة توجّهٍ أميركيٍّ وغربيٍّ في ظلّ المتغيّرات الكُبرى في منطقتنا، وبحثاً عن قوّة ديمقراطية سورية، يمكن الاستناد إليها، ويكون فضاؤها أكبر من “مسد” و”قسد” الكرديتين؟ إنّهما كرديّتان، وهذا لا يغفل وجود عرب فيهما، ولكنّ دورهم في غاية الهامشية، ولهذا نهمّشه مجدّداً؟ هكذا توجّه، أو حتى غيابه، يستدعي في الحالتَين وجوداً فاعلاً وبديلاً من المعارضة السورية (الائتلاف الوطني، “مسد”، الفصائل في الشمال)، التي فشلت في أن تمثّل مصالح السوريين.
أضاعت “مسد” (والديمقراطيون المتعاونون معها من العرب) “فرصةَ العمر” في أن يشكّلوا قطباً ديمقراطياً يمثّل طموحات السوريين في الانتقال الديمقراطي
فشل المؤتمر في أن يكون صوتاً ديمقراطياً بالفعل، وأن يمثّل المرحلة الراهنة في سورية، التي (عدا عن المتغيّرات الإقليمية الواسعة)، يوجد فيها أصوات سورية قويّة؛ انتفاضة السويداء، والاحتجاجات الشعبية في إدلب، واعتصامات الكرامة في إعزاز والباب في الشمال السوري، وكذلك التذمّر الاجتماعي الواسع في المدن الخاضعة لسيطرة دمشق. فقد النظام السوري أشكال مشروعيته كلّها، ويشكّل التقدّم الصهيوني برياً في مناطق في الجولان وأرياف درعا دليلاً إضافياً على ذلك الفقدان. إن الوضع الاقتصادي والاجتماعي سيئ للغاية، وهناك الخلاف الذي يتعاظم مع إيران وحزب الله، وهناك التفكّك الواسع لما يسمى بالحاضنة “الطائفية” للسلطة. إن تعدّد أسباب فشل النظام كان يستدعي مؤتمراً واعياً لكافّة أوجه الأزمة السورية، ولكن هذا لم يكن من أهداف المؤتمر؛ فهل نقول إنّهم يعون أوجه الأزمة، ولكن لا يريدون مناقشتها؟
انتهى المؤتمر إلى سيطرة “مسد” و”قسد” على “المسار الديمقراطي السوري”. وبالتالي، صار نافذةً لسيطرة هذه القوى. وبدأت بعض الشخصيات مع انتهاء أعماله بالإعلان عن مغادرته، وانتقاده. وللأسباب التي ذكرت أعلاه تعي الجهات التي دعت إلى المؤتمر الانتقادات أعلاه لـ”قسد” و”مسد”، ولكنّها تجاهلتها قاصدةً، وكان المؤتمر من أجل إثقال وزن “مسد” في مواجهة الائتلاف الوطني وتيّارات المعارضات السورية، المستقلّة والمنظّمة، وبما لا يغيّر من واقعها بشيء، أي أن المؤتمر كان مُعدًا لهدفٍ واحدٍ، وهو توسيع دائرة المتعاونين مع “مسد”، والاشتراك بمؤسّساتها، ريثما تنعقد صفقة ما، إقليميّة ودوليّة لإيجاد حلٍ ما للوضع السوري.
إنتاج معارضة ممثِّلة لسورية، وليس للقوى المعارضة أو للسوريين الخارجين على سيطرة النظام فقط، هو ما يجب العمل لأجله
لقد فشل المؤتمر في تجميع القوى الديمقراطية وهناك كثير من هذه القوى لم تنضمّ إليه، والآن فَشِل في أن “يُدجّن” شخصيات وقوى جديدة في ضوء “مسد”. لقد أضاعت “مسد” (والديمقراطيون المتعاونون معها من العرب) “فرصةَ العمر” في أن يشكّلوا قطباً ديمقراطياً يمثّل طموحات السوريين في الانتقال الديمقراطي نحو دولة تمثّل السوريين كافّة، بغض النظر عن القومية والدين والمذاهب والطوائف.
التعقيد الذي أصبح عليه الوضع السوري يستدعي بالفعل كثيراً من الورش واللقاءات والنقاشات السياسية. إن فشل مؤتمر بروكسل هو جزء من حالة الفشل العامّة للتيّارات المعارضة في سورية، وهذا سياق طبيعي. إن إنتاج معارضة ممثِّلة لسورية، وليس للقوى المعارضة أو للسوريين الخارجين على سيطرة النظام فقط، هو ما يجب العمل لأجله، ولا سيّما في ظلِّ التحدّيات الكُبرى التي تواجه السوريين. هل هذا ممكن؟ … الأمر في غاية التعقيد أيضاً، فأن يُعقد مؤتمرٌ بعد الأزمة المفتوحة منذ عام 2011، ويكون بهذا الفشل كلّه، فهذا مؤشّر في غاية السلبية.
هل يمكن أن يكون الفشل سبباً للبحث عن طرق جديدة لتشكيل المعارضة الجديدة؛ هذا هو الضروري في هذه اللحظة.
المصدر: العربي الجديد