رشا عمران
يلتقي، في مسرحية سارتر “لا مخرج”، ثلاثة أشخاص بعد الموت في غرفة مغلقة ليكتشفوا أن الجحيم ليس هو ذلك التقليدي الذي يتعذّب فيه المذنبون بالنار، بل هو الجحيم النفسي الذي يسبّبه البشر بعضهم لبعض. وفي هذه المسرحية، أطلق سارتر جملته الأشهر: “الآخرون هم الجحيم”، والتي أصبحت بمثابة جملة أيقونة لكل غير القادرين على التواصل مع الآخرين لأي سبب، قد يكون اضطراباً نفسياً أو من الطباع الصعبة، أو فشلاً في تكوين علاقات صحية مع الآخرين. لكن من المؤكّد، لي على الأقل، أن هذه المقولة الشهيرة المؤثرة واحدة من أكثر المقولات تشاؤماً ودعوةً إلى العزلة والانكفاء عن عيش الحياة الطبيعية.
قد ينطبق الأمر نفسُه على رواية الفرنسي هنري باربوس “الجحيم”، التي تحكي عن شخص معزول ومجهول الاسم يعيش في غرفة في فندق في باريس، ويبدأ، من خلال ثقب في جدار غرفته، بمراقبة حياة الآخرين الذين يتبدّلون في الغرفة المجاورة. تنتمي الرواية إلى أدب اللامنتمي، حيث يعبّر المؤلف عن رؤيته إلى العالم، بوصفه مكاناً لا يُحتمل وغير معقول ومليء بالفوضى، وهو ما يتقاطع، بشكل كبير، مع مسرحية سارتر “لا مخرج”.
يعتبر باربوس أحد المؤثرين في الفكر والأدب الذي أسّس للحركة الوجودية التي كان سارتر أحد روادها مع ألبير كامو، وكانت ردّ فعل فكري وثقافي على اليأس الذي عمّ البشرية بعد الحربين العالميتين، الأولى والثانية، اللتين خلفتا أسئلة عميقة عن عبثية الحياة ومعنى الوجود في عالم اللامعنى الذي يحكمه الفناء والموت. كانت الوجودية فلسفةً عميقةً نابعة من بحث وتأمّل فلسفي ضمن سياقات تاريخية تأخذ العالم نحو الحداثة التي دفعت الفلاسفة إلى طرح أسئلة بديلة عن البديهيات والطغيان الكنسي في أوروبا الذي كان يفرض نمطاً محدّداً من التفكير مضادّأ للعقل البشري في تكثيفه أسئلته الوجودية. أنتجت هذه المرحلة من البحث الفكري فلسفة العزلة والفردية والمسؤولية الذاتية التي تطالب الفرد بتدبير شؤون حياته بنفسه ونسيان المجتمع الذي لا يقدّم له سوى التخبط والدمار النفسي والمعنوي. كانت جملة سارتر “الجحيم هم الآخرون” بمثابة التتويج لهذه الفلسفة الناتجة عن تحوّل المجتمعات نحو الحداثة.
في وقتنا الحالي، ومع استبدال الحياة الواقعية بحياة افتراضية، سوف تكون في مستقبل قريب هي السائدة تماماً، ازدادت عزلة الكائن البشري، وأصبحت أكثر شراسةً وعنفاً وتجذّراً في عمق النفس البشرية، من دون أن تكون مستندةً إلى فلسفة أو فكر يمكنهما أن يقدّما أسئلة وتفاسير ملهمة لها، ومن دون أن تسبقها أسئلة عميقة عن ضرورة الوصول إلى عالم ما بعد الحداثة بكل تجلياته التي نراها. ذلك أننا نعيش في زمن القوة والسلطة ورأس المال الذي يفرض قيمه وهويته من دون سياقات تاريخية أو فكرية تمهّد للبشرية ما يحدث، ومن دون أن يكون مستقبل كوكب الأرض وصلاحيته للعيش وكينونة المجتمعات، بوصفها مجموعاتٍ بشرية تتشارك هذا الكوكب مع باقي الكائنات، أي حساب أو ضرورة. نعيش حالياً في زمنٍ يمكن فيه بيع أي شيء وتسليع أية قيمة، وتسفيه كل الأفكار القيمة وعرضها سلعاً زهيدة الثمن في سوق الاستهلاك اليومي؛ وتفرض العزلة علينا فرضاً نتيجة الحروب التي تنتقل من مكان إلى آخر، ونتيجة التغير المناخي الذي يسبب خللاً كبيراً في توازن الطبيعة ينعكس خطراً على الكوكب كله؛ ونتيجة تسخير الذكاء البشري لإنتاج ذكاء صناعي يزيد في أرباح أصحاب رؤوس الأموال الضخمة المسيطرين على معظم موارد الأرض والمتحكّمين بسياساتها الكبرى.
لا تشبه هذه العزلة المفروضة علينا في شيء عزلة الوجودية، التي كانت منتجةً لفكر عميق وأدب رفيع، وجاءت في سياقها التاريخي الطبيعي. أما العزلة الراهنة فمدمّرة وقاتلة، ذلك أنها تعمّق فكرة “الآخر هو الجحيم”، بسبب ندرة الفرص المتاحة للعيش التي تساهم في تكريس شوفينية هوياتية فارغة المحتوى، كما تزيد في الفجوة بين أكثرية تقرّر مصيرها أقلية لا ترى أي مانع أخلاقي في الحروب والفقر والتشرّد والموت والتهجير والدمار، طالما ستكون نتيجته مزيداً من التكدّس في أرصدتها البنكية؛ وطالما ستتيح لهذه الأقلية مزيداً من السيطرة على موارد الكوكب، وربما الكواكب الأخرى، من يدري؟
المصدر: العربي الجديد