عاطف أبو سيف
فتح اتفاق وقف إطلاق النار الذي أنهى الحرب في لبنان النقاش موسّعاً بشأن مستقبل الحرب على غزّة. بهذه الهدنة التي تستمر 60 يوماً، لم يعد ثمة شيء اسمه “وحدة الساحات”. ولا يمكن لأحدٍ أن يلوم حزب الله على ذلك، لأن الدولة اللبنانية قامت بما رأته في مصلحتها. لكن على الفلسطينيين أن يعيدوا تركيز نقاشهم الداخلي من أجل أن يصلوا إلى استنتاجات تنقذ ما تبقى من غزّة إذا بقي شيء. كما لا يمكن للمرء أن يفهم ما جرى من اتفاق في لبنان بمعزل عن إخراج إيران نفسها من حرج الردّ المتوقع على القصف الإسرائيلي قبل أكثر من شهر، فعملياً إنها خرجت أيضاً من الحرب التي كانت تلوح بينها وبين تل أبيب. بعبارة أكثر وضوحاً، ثمّة ساحات تفكّكت بشكل واضح. وبغض النظر عن تقييم الاتفاق بين بيروت وتل أبيب الذي جرى بوساطات مكثفة، استباقاً لوصول دونالد ترامب إلى مكتبه البيضاوي، وبالتالي، يكون الرجل قد حقق ما وعد به ناخبيه من أصول لبنانية، المؤكّد أن الاتفاق شكل انعطافة حادّة في مستقبل حرب الإبادة على غزّة.
وربما من المصادفة أن يحدث الاتفاق في ذكرى الهدنة اليتيمة التي جرت في غزّة في العشر الأواخر من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي عام 2023، فيما لا أمل في تحقيق هدنة أخرى أو في وقف الحرب التي تشنّها إسرائيل. وإذا كان ثمة درس يمكن تعلمه من التجربة اللبنانية فهو أن مسؤولية التهدئة ووقف الحرب لم تكن بيد حزب الله. صحيح أن بيده مصادر القوة، بوصفه جهةً وطرفاً أساساً في القتال، ولا يوجد طرف غيره، لكنه، منذ البداية، أوكل بمهمة التوصل إلى اتفاق لمؤسّسات الدولة. في الحالة الفلسطينية، لا يبدو الأمر كذلك، إذ ثمّة أمرٌ مسلّمٌ به يقول إن التهدئة قرار بيد حركة حماس، بغض النظر عن رأي الكل الوطني، و”حماس” تتصرّف على هذا الأساس، وهذا يعني الاستئثار بمصير غزّة.
المسؤولية عن إنجاز الهدنة ووقف إطلاق النار يجب ألا تكون بيد فصيلٍ بعيْنه، بل هي مسؤولية وطنية فلسطينية جماعية، ولا يمكن للفلسطينيين بعد أكثر من 410 أيام من الحرب أن نتعامل مع ما يجري في غزّة على أنه من اختصاص تنظيم بعينه. وتحديداً “حماس” يجب أن تفهم ذلك. من الواضح أنها تصر على أن هذه حربها وحدها، وهذا غير صحيح، هذه حرب تجري فيها إبادة الشعب الفلسطيني في غزّة بشكل كامل.
والحقيقة أن الذي قُتل ويُشرد ويعيش في الخيام ليس شعب هذا التنظيم ولا ذاك، بل هو الشعب الفلسطيني كله في غزّة، فهو ليس شعب “حماس” ولا شعب “فتح” ولا شعب الجهاد الإسلامي ولا شعب الجبهة الديمقراطية ولا ولا ولا، بل هو الشعب الفلسطيني الذي أفرز كل هؤلاء، والذي نذر كلّ هؤلاء (على الأقل علينا أن نصدّق ذلك) تنظيماتهم من أجله. المصير الفلسطيني كله موضع اختبار، وعلينا مواجهة الحقيقة في ذلك، فالناس في غزّة يجب ألا يُتركوا بيد تنظيم بعينه، وفي هذه الحال “حماس”، من أجل تقرير مصيره. ليس من حقّ أحد أن يفترض أنه صاحب اليد العليا والفصل بمصير شعب بأكمله. لسنا بصدد تقييم ما جرى خلال السنة ونيف الماضية، لأن ثمة نقاشاً وطنياً جدّياً وحقيقياً لا بد من فتحه للوقوف على ما جرى، وعلى الطريقة التي جرت فيها إدارة المعركة، ولكن هذا النقاش لا يمكن أن يتم بشكل معمق إلا بعد انتهاء الحرب. وإلى حين ذلك، لا يمكن أن يترك الشعب في غزّة بيد أي تنظيم، حتى يواصل ما يظن أنه الصواب، وهذا الصواب ليس إلا قناعاته الفصائلية من دون استشارة الكل الوطني. المقدّس الوحيد هو الشعب الفلسطيني ومصالحه.
قرار التهدئة في غزّة يجب أن يكون فلسطينياً جماعياً. علينا أن نتحدّث بوصفنا فلسطينيين بصوت واحد ومن دون وسطاء في الأمر
إذا كانت حركة حماس قد قرّرت الحرب، فليس من حقها أن تواصل احتكار قرار التهدئة، لأنها ليست من يعاني، رغم ما قدّمته من تضحياتٍ من قادتها والمقاتلين فيها، لكن مَن يعاني هم أهلنا، الناس البسطاء الذين يعيشون في الخيام منذ أكثر من سنة. لقد شكل السابع من أكتوبر (2023) نقطة مهمة في تاريخنا الوطني وفي كفاحنا التحرّري، لكن ما تلا ذلك بحاجة لنقاش. ومرّة أخرى، لن يكون هذا الوقت المناسب لفعل ذلك، لكن هذا لا يعني عدم فتح نقاش حقيقي بشأن مستقبل الحرب ومستقبل وقفها، أو بالأحرى ضرورة وقفها، إذ لا يمكن أن تستمر إلى الأبد. وإذا كان ثمةَ من لا يرى الواقع، فعلينا أن نفتح عينيه بالقوة حتى يراه، فالواقع يقول إنه لم يعد هناك غزّة. هناك شمال غزة وهناك جنوب غزة، وهناك شمال شمال غزّة وهناك مدينة غزة، على أحدهم أن ينتبه أن شمال شمال غزّة أي مخيم جباليا وبيت حانون وبيت لاهيا وجباليا والنزلة صار شبه فارغ، حيث جرى ترحيل كل ساكنيه، وهناك معابر يتم نصبها لفصل الشمال عن الجنوب، ولفصل جباليا عن غزّة. وهناك أحزمة أمنية، هناك رغيف خبز يموت الناس من أجله، وصار كيس الطحين غاية، ورُضّع لا يجدون رضعة الحليب، وهناك مكان جرى تشويهه وجغرافيا تم استلابها. على من يقرّر أن ينتبه إلى الواقع، ولا يغره مقاتلو “الكيبورد”، ولا “السوشالجية”، ولا متنطّحو الشعر والعبارات الكبيرة خارج غزّة ليسمع لصوت الناس في غزّة، عليه أن يرى شعبه ويفهم ماذا يريد شعبه. أكبر انتصار هو أن ننتصر لبقاء شعبنا. بقاء شعبنا في غزّة هو أكبر هزيمة يمكن لإسرائيل أن تتلقّاها. تذكروا أن بقاء أهلنا في يافا وحيفا والناصرة والجليل والمثلث كان الهزيمة الكبرى للمشروع الإحلالي في البلاد، إذ عنى، ضمن أشياء كثيرة، أن المشروع التصفوي لم يمح الشعب الفلسطيني من ترابه. بقاء أهلنا في غزّة وعودة السكان إلى الشمال هو الانتصار الحقيقي الذي لا يمكن التقليل منه. استمرار الحرب على هذه الوتيرة سيعني إفراغ الشمال بشكل نهائي، وربما تهجير النازحين من الجنوب إلى مكان آخر.
وعلى من يصرّ على وقف الحرب قبل أي صفقة وخروج الجيش من غزّة، وهذا يجب أن يكون جوهر أي اتفاق، أن يتذكر أن هذا الاحتلال وهذا الجيش دخل بعد الحرب، وهو نتيجة المعركة الجارية. ثمّة تفاصيل مؤلمة بشكل كبير، لكن يجب قولها. على من يفاوض عن حياة أكثر من مليوني شخص في غزّة أن يعرف ماذا يجري في غزّة، فالقصة ليست نشوة وشعوراً وزهو تفاخر، هناك شعبٌ يمسك بكل نواجذه بتلابيب الحياة، ويعدّ حياته يوماً بعد آخر، ويصرّ على الصمود، لكنه لا يجد من يشجّعه. أتمنى أن يخرج علينا شخصٌ ويقول لنا ماذا يريد بعد 14 شهراً، وينتبه إلى أن كل ما يريده كان موجوداً قبل ذلك، وأن عليه أن يجيبنا لماذا نتراجع كثيراً إلى هذا.
إذا كانت “حماس” قد قرّرت الحرب، فليس من حقها أن تواصل احتكار قرار التهدئة، لأنها ليست من يعاني، رغم ما قدّمته من تضحياتٍ
ضمن هذا النقاش، الجميع مُدان وعليه مسؤولية كبيرة. هذا لا يُعفي حركة فتح ولا الكل الوطني الفلسطيني من المسؤولية، فنحن لا نتحدث عن شعب آخر من الهونولولو، بل عن شعبنا، عن غزّة التي حملت الثورة وأطلقت “فتح” واحتضنت جميع الفصائل الوطنية. غزّة ياسر عرفات وصلاح خلف وخليل الوزير وأبو يوسف النجار وكمال عدوان وممدوح صيدم ومئات القادة. وعليه، نحن في حاجة لخطاب وطني مختلف، سواء على صعيد فهمنا ووعينا أو على صعيد مخاطبة “حماس” والنقاش معها. يجب ألا يُترك الأمر بيد “حماس” وحدها، وأيضاً على الفصائل الأخرى، خصوصاً الجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية، أن تنتبه إلى مواقفها في هذا الخصوص. هذا مصير شعب بأكمله، ويجب أن يكون الموقف والقرار بيد كل تنظيمات الشعب الفلسطيني، حتى لو كان ما يريده الاحتلال بيد بعض التنظيمات، أقصد الأسرى، فإن القرار يجب أن يكون بيد الجميع.
القول إن لا دولة فلسطينية بدون غزة ولا دولة في غزّة يجب أن يعني أن مصير غزّة هو مسؤولية الكل الوطني، ولا يمكن تحت وقع سياط الانقسام أن نواصل التفكير بالمنطق نفسه، حتى بعد 17 سنة من الانقسام و 14 شهراً من حرب الإبادة. الفلسطينيون في حاجة للخروج من شرنقة التفكير هذه، والبحث في فضاء أوسع، من أجل إعطاء أملٍ للجيل الذي يُذبح ويُنكل به ويتعرّض لأبشع وأكثر إبادة موثقة في التاريخ. غزّة ليست عبئاً، وهذا يجب أن لا يكون على صعيد العبارات والشعارات الوطنية، ولا يمكن أن يستقيم الحال الوطني إذا لم تتعافَ غزّة، ولم تعد لها مكانتها في صناعة القرار الوطني الجماعي. وأيضاً هذا ليس شعاراً، لأنه كان صحيحاً دائماً في السياق التأسيس للحركة الوطنية، كما في استمرارية الكفاح التحرّري ظلّ صحيحاً، إلى جانب أن أي نظرة للمستقبل لا يمكن إلا أن تمرّ من عين التلسكوب الموضوع على نافذة من نوافذ غزّة، أو تكون تلك العين ترصد عالم غزّة الصغير شديد التفاعل والتأثير.
لا أحد بريء تماماً حين يتعلق الأمر بالحرب وضرورة وقفها. قرار التهدئة يجب أن يكون فلسطينياً جماعياً. علينا أن نتحدّث بوصفنا فلسطينيين بصوت واحد ومن دون وسطاء في الأمر.
المصدر: العربي الجديد