وائل قنديل
ثلاثة أطراف ترى في قرار المحكمة الجنائية الدولية باعتقال بنيامين نتنياهو حبراً على ورق: الاحتلال الصهيوني، ودول التطبيع العربية، والولايات المتحدة، هؤلاء يسلكون عكس تيار عالمي أبدى ترحيبه بالقرارِ التاريخي وطالب بضرورة تنفيذه. والوضع كذلك، استمرار التعامل العربي مع سلطة نتنياهو نوع من الالتفاف على القرار الأممي، وهو الأمر الذي يفيد الكيان الصهيوني أكثر من موقف الإدارة الأميركية من الموضوع نفسه.
يقول جو بايدن، بعد أن أعاده اتفاق لبنان من غيبوبة الخرف، إنّ من الجنون أن يطلب من عائلات الأسرى الصهاينة في غزّة شهرين لكي يستردّوا أسراهم. لكن هذا الصهيوني الوقح لا يرى أيّ جنون في القتل اليومي لعشرات الفلسطينيين في غزّة، كما لا يرى جنوناً في وصول عدد شهداء العدوان الإسرائيلي إلى أكثر من خمسين ألف إنسان، منهم 33 ألف طفل وامرأة على الأقل، ثم يعتبر هذا العجوز الخرف أنّ توجيه الاتهام لقاتل كلّ هؤلاء وإصدار مذكرة من المحكمة الجنائية الدولية باعتقاله عملاً غير مقبول أو معقول، أو هو، في نظر “جو الكذاب” كما أطلق عليه الإعلام الأميركي، ضرب آخر من الجنون.
الجنون هو ما يمارسه جو بايدن منذ 14 شهراً، لكن ثمّة جنوناً أكبر هو الإذعان لما يأمر به كلما عاد من غيبوبته، والتعاطي معه بوصفه وسيطاً نزيهاً ومحايداً بين العدو والضحية. أمّا منتهى الجنون فهو هذا الحياد الرسمي العربي البارد في التفاعل مع قرار “الجنائية الدولية” تصنيف بنيامين نتنياهو مجرم حرب واعتقاله، إذ باستثناء الجزائر، لم تعلن دولة عربية ترحيبها بالقرار، أو تستثمره سياسيّاً في الضغط على رئيس وزراء الاحتلال، فتذهب الدول المطبّعة مثلًا إلى تعليق العلاقات الاقتصادية والدبلوماسية مع كيانٍ يترأسّه مجرم حرب.
هذا التعايش العربي مع شخص مطلوب للاعتقال دوليًا بتهمة ارتكاب مجازر جماعية ضدّ شعبٍ عربي، يأخذ طوراً أكثر جنوناً حين يشتعل بعضهم حماساً للعودة إلى لعبة الوساطة تحت الإشراف الأميركي، وهو ما لا يمكن تفسيره إلا بأنه مخرج آمن لبنيامين نتنياهو للإفلات من قرار المحكمة الجنائية الدولية. ولا يصح هنا تبرير الهرولة نحو الوساطة الأميركية بأنّها مع أطراف إسرائيلية أخرى بعيداً عن نتنياهو، فالشاهد أنّ الكل يعلم ويقرّ بأنّ كلّ خيوط اللعبة السياسية ونطاقات العمليات العسكرية الإسرائيلية في يد شخص واحد، هو بنيامين نتنياهو، الذي صار هو إسرائيل، كما أنّ الكيان مختزلٌ في شخصه. وبالتالي، كلّ تفاوض وكلّ وساطة تكون مع هذا الشخص المصنّف مجرم حربٍ متّهماً بارتكاب جرائم إبادة جماعية وتطهير عرقي بحقِّ الشعب الفلسطيني، والاتهام هذه المرّة ليس موجّهاً من منابر إعلامية أو هيئات سياسية وإنسانية أممية، بل من أعلى جهتي تقاضٍ أمميتين، هما المحكمة الجنائية الدولية ومحكمة العدل الدولية، وبقرارات رسمية قضت باعتقاله في أيّ مكانٍ يذهب إليه، وهي القرارات التي أعلنت دول محترمة ذات ثقل دولي كبير احترامها لها.
تحضر هنا بسالة المحامي الفرنسي جيل دوفير الذي رحل عن الدنيا بعد أيام من قرار المحكمة، وهو الذي خاض نضالاً قانونياً لأكثر من عام كامل ضدّ جرائم نتنياهو بحقّ الشعب الفلسطيني، وكانت آخر كلماته بعد صدور الحكم “الآن يمكنني أن أموت وأنا مرتاح”. وها هو يرحل بعد كفاح طويل، داعياً كلّ أصحاب الضمائر في العالم إلى الانضمام إليه، حتى صدر قرار المدّعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بطلب إصدار مذكرة الاعتقال ضد نتنياهو وغالانت، بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، في شهر مايو/ أيار الماضي، وهي المذكرة التي أصدرتها المحكمة الأسبوع الماضي.
والحال كذلك، الامتناع عن التعامل مع نتنياهو وكيانه ليس فقط موقفاً أخلاقيّاً وإنسانيًاً وقوميّاً لازماً، بل هو قبل ذلك التزام بقرار قانوني من أعلى محكمة دولية يقضي باعتقاله ومحاكمته، وهو القرار الذي استجابت له دول أوروبية، مثل إيطاليا وبريطانيا وبلجيكا، وفرنسا قبل أن تتراجع في خضوعٍ مذلٍ للضغط الأميركي الإسرائيلي.
المصدر: العربي الجديد