أحمد غنام
الغموض الذي اكتنف الموقف التركي من معركة ردع العدوان في سورية، وعدم تصدّر “الجيش الوطني” المعارض، المدعوم من أنقره، المشهد الميداني، أثار التكهنات بشأن حقيقة الدور التركي في هذه الأحداث.
في اليوم الأول من بدء زحف قوات المعارضة، خرجت تصريحات للمتحدّث باسم وزارة الدفاع التركية، اقتصرت على القول إنهم يتابعون ما يحدث في إدلب، ويتخذون جميع التدابير اللازمة. وقبيل الوصول إلى تخوم مدينة حلب، قالت وزارة الخارجية في بيان لها إنها تولي أهمية للحفاظ على السلام في إدلب والمناطق المجاورة، وإنها التزمت بعهودها باتفاقيات خفض التصعيد. وكأنها تشير إلى عدم التزام الأطراف الأخرى، وهنا اتهام لإيران أو لروسيا أو لكلتيهما، وهما الضامنان للنظام السوري.
على الطرف المقابل للموقف الرسمي، نجد التعاطي الإعلامي التركي مع أحداث المعركة متخبّطاً ومُفاجأً في حصول المعركة في يومها الأول، وكانت تغطية أحداثها وتفاصيلها مشتّتة، على عكس تناوله الملفّ السوري خلال السنوات الماضية. وفي اليوم الثاني من المعركة، بدأت وسائل الإعلام المقرّبة من الحكومة تتساءل عن أهداف المعركة، وتطرح أسئلة تتعلق بوجهتها، هل هي حلب أم الوقوف في محيطها والتوجّه شرقاً. وربما من هنا يمكن قراءة غموض الموقف التركي وعدم وضوحه في غياب التصريحات الرسمية.
لا يخفى على الجميع ما يمكن أن تحققه تركيا من مصالح ومكاسب في سيطرة المعارضة على حلب، سواء في التفاوض أو على الصعيد الاقتصادي أو في إطار إعادة اللاجئين
لكن ما نعرفه أن المجتمع التركي ينظر إلى حلب امتداداً تاريخياً وقومياً لجغرافيا الأناضول، فهي احتضنت أولى تشكيلات الدولة السلجوقية في المنطقة، أي قبل الأناضول. لهذا يعتقد الأتراك أن المكوّن التركماني يشكل من 50% إلى 60% من سكّانها على مستوى الولاية، وليس المدينة فقط، ضمن ما يُعرف بقانون الإسكان خلال ما تُعرف بفترة التنظيمات العثمانية أواسط القرن التاسع عشر، ومنها توطين العشائر واستحداث مناطق إدارية جديدة، مثل مدينة قهرمان مرعش وكيليس ومدينتي هسة والريحانية التابعتين لولاية هاتاي اليوم، هي مدن مستحدثة. وقد وطّن فيها تركمان حلب، وبقيت إدارياً تتبع ولاية حلب الكبرى.
وكتب الضابط العثماني علي فؤاد، في مذكّراته، إن مصطفى كمال أتاتورك شارك في وضع خريطة الميثاق الوطني للدولة العثمانية عام 1919، وكان ذلك يعني أن الدولة تعهدت بعدم التفريط بحدود هذه الخريطة مهما استلزم منها الأمر من تضحيات، وكان ضمن الخريطة حلب والرقة ودير الزور وكركوك والموصل والسليمانية وباطوم. واستناداً إلى هذه الخريطة، نستذكر كلمات زعيم الحركة القومية دولت بهتشلي في أكتوبر/ تشرين الأول 2017 عن أن تركيا لن تتوقف عند حدود 81 ولاية، وأن كركوك تمثل الولاية الثانية والثمانين والموصل هي الثالثة والثمانون وحلب وإدلب هما الرابعة والثمانون والخامسة والثمانون وأنها أراض تركية.
لهذا ينظر الأتراك إلى حلب باعتبارها أراضي ضاعت منهم وتجب استعادتها. وتتحدّث أوساط قريبة من الحكومة عن أن أنقرة اضطرّت إلى تسليم حلب مرة أخرى، وفق اتفاق تركي روسي لخفض التصعيد أواخر عام 2016، من أجل الحفاظ على سلامة الأهالي، حينما كانت محاصرة من مليشيات قاسم سليماني وحزب الله. وانطلاقاً من هذا، نفهم حرص الإدارة التركية الحالية على ضرورة تعديل اتفاقية أضنة مع بشّار الأسد، بحيث يسمح للأتراك بالدخول في عمق الحدود السورية 30 كيلومتراً، أي الوصول إلى حلب، والتخلص من ذنب التفريط بحلب.
سيكون حرج تركيا الأصعب في شكل وطريقة إدارة حلب والمناطق الجديدة
لا يمكن البتّ بالموقف التركي من التصريحات الرسمية، فلم يكن مهللاً ومباركاً، كما أنه لم يعترض، فقد اكتفى وزير الخارجية هاكان فيدان بالقول إن بلاده ليست منخرطة في معركة حلب، غير أنه لا يخفى على الجميع ما يمكن أن تحققه تركيا من مصالح ومكاسب في سيطرة المعارضة على حلب، سواء في التفاوض أو على الصعيد الاقتصادي أو في إطار إعادة اللاجئين.
سيتضح الموقف التركي أكثر إذا ما حاولت التنظيمات الكردية المسلحة الاستفادة من انسحاب قوات النظام والسيطرة على مناطق حسّاسة وحيوية كما حصل في مطار حلب، حيث يوجد ادّعاء بأن النظام سلمها لقوات سوريا الديمقراطية (الكردية) قبل انسحابه. وستكون الأيام المقبلة حاسمة في كيفية تعامل تركيا مع مناطق تل رفعت ومنبج وكوباني والتوجه شرقاً باتجاه الرقّة والحسكة والقامشلي، لإنهاء ما تسميه الخطر على أمنها القومي. وربما مهدت أنقرة لذلك دولياً في زيارة الأمين العام الجديد لحلف شمال الأطلسي إلى تركيا قبل يومين من انطلاق عملية ردع العدوان، لا سيما أن تركيا تقدّم للغرب فرصة للتخلص من خطر موجات اللجوء السوري من خلال استقرار مدينة حلب وتفعيل العجلة الاقتصادية فيها.
ولكن ربما المأزق الصعب الذي ستواجهه تركيا ليس في قدرتها على تأمين الدعم اللوجستي والغطاء الدولي لقوات المعارضة، إنما سيكون حرجها الأصعب في شكل وطريقة إدارة مدينة حلب والمناطق الجديدة، فإن تمكّنت من فرض نفوذها على هيئة تحرير الشام بالشكل الذي تفرضه في ريف حلب الشمالي، فكيف ستدير تلك المناطق، هل بفرض ولاة أتراك يعتمدون على مترجمين، الطريقة التي لم تنجح بها في إدارة الريف الشمالي لحلب، أم أنها ستتعامل مع تلك المناطق عبر ترك الأمر والفصل لصاحب البندقية، كما هو الحال في بعض المناطق؟… هذا كله سيظهر خلال الأيام المقبلة، مع تبلور الموقف التركي حيال أي رد فعل عسكري من روسيا، أو تحرّك كردي جديد.