جورج كعدي
صعبٌ جداً، بل شاقٌّ، أن تقبض ولو في خيالك على ملامح طيّار حربي إسرائيلي. أن تحزر مكوّنه النفسي، الشعوري، الانفعالي، الليببيدوي (بقاموس سيغموند فرويد)، العقيديّ، الأخلاقيّ (إن امتلك شيئاً من أخلاق). والأكثر أهمية كيف يُفكّر في مسألة القتل من داخل حجرة قيادة إلكترونية مفذلكة أُعدَّ لها قبل التحليق الآمن، والأمان هنا راحةٌ جبانةٌ لأن تحليقه للتدمير والقتل خالٍ من الأخطار، مصوِّباً عبر “مصلّب” شاشته الكمبيوترية على هدف عُيّن له كي يقذفه بأرهب الصواريخ تدميراً، فيُسقِط مبنىً أو منزلاً فوق رؤوس قاطنيه، أو مستشفىً يُطبق على مرضاه وأطبّائه ومسعفيه، أو يحرق خِيَماً في غزّة بنازحيها الأحياء الصابرين على جوع وبرد وخوف، فتصيبُ هذا الطيّار المجرم المنحرف نشوةُ “الإنجاز العظيم” (!) قبل أن يؤوب إلى حظيرة آلته المدمّرة ويستعدّ متباهياً (بماذا؟!) لطلعة ثانية من النوع المدمّر والقاتل عينه.
هذا الطيّار الذي يخال نفسه “فارس الجوّ”، وليس من الفروسية بشيء، المتحصّن بآلته الشيطانية المُدمِّرة، أقبح “إنجازات” البشر، سُنّت له عالمياً قوانين أخلاقية تتعلّق بحدّ استخدام القوة، سعياً إلى توازن بين الهدف المُعيّن والأساليب المستخدمة لبلوغه، وذلك في مجالَين قانونيَين، عامّ وخاصّ، وتقوم الركائز القانونية بشكل خاصّ، وبحسب القانون الدوليّ الإنساني، على التناسبيّة (Proportionality) مبدأً قانونيّاً وأخلاقيّاً جوهريّاً في الحروب، وعلى التفريق من ثمّ بين المقاتل وغير المقاتل. ويُطبّق هذا المبدأ تحديداً على المدنيين، وليس على قوات الخصم العسكرية. فقد نصّ البروتوكول الإضافي رقم 1 لاتفاقيات جنيف، والمادّتين 51 و57، على أن مبدأ التناسبية يمنع الهجمات، حتى تلك الموجّهة إلى هدف عسكري، بواسطة الطيران الحربي وسواه، لأنه “قد يتسبّب عَرَضاً بإزهاق حياة السكّان المدنيين، أو جرح أفراد منهم، وإلحاق الدمار بالمنشآت المدنية، أو بمزيج من هذه الخسائر والأضرار التي تُعتبَر مُفرِطةً قياساً إلى فائدتها العسكرية الملموسة والمباشرة المتوقّعة”. يحاول هذا القانون الدولي أن يحدّ من “الأضرار الجانبية”، أو المسمّاة بغير ذلك، لمنع قتل المزيد من المدنيين.
سذاجةٌ مفرطة افتراضُ تمتّع هذا الكائن الهجين بوازع أخلاقي أو قيمي من أيّ مندرج، حتى في سلّم الانحطاط والرداءة
مع الكيان الصهيونيّ المتوحّش، وطيّاريه المرضى نفسياً، لا “تناسبيةَ”، ولا مَنْ يحزنون. لا امتناعَ عن قتل المدنيين ولو نصّت قوانين الدنيا على ذلك، بما فيها تلك السماوية المسمّاة شرائع. فالطيّار الحربيّ الإسرائيليّ آلة قتل ميكانيكية – إلكترونية، قاتل محميٌّ وليس مقاتلاً، جبانٌ موتورٌ متحصّن وحاقد في هيكله المعدني، ساديٌّ مريضٌ يستمتع بتمزيق الأطفال والشيوخ والنساء أشلاءً تحت السقوف والجدران المتهاوية بقصفه الجهنمي، وصواريخه المدمّرة الحارقة، ولا يأنف حتى عن مطاردة أهل المأساة في غزّة داخل خيم النزوح، ليمزّقهم ويحرقهم فيها نياماً. غاراته الجبانة (والأحرى به أن ينتحر أو يعتكف أو يرفض الأوامر، وكلّ ذلك متاح له وممكن) ليست من الحرب والقتال والإقدام بشيء، ولا هي “بطولة” أو شجاعة أو التحام مباشر مع ” العدو” في الميدان، ولا هي مآثر تدعو للافتخار، وليست فعلاً مبرّراً في أيّ معيار عسكريّ أو “وطنيّ” (لو كان الوطن وطنه) أو أخلاقي أو إنساني. العالم كلّه بات يعلم، ومنذ الحروب السابقة التي خاضها الصهيوني، أنّ طيار “إسرائيل” الحربي مُجرَّد قاتل محلّق وليس مقاتلاً، القتل “إنجازه” اليتيم، يقصف ويدمّر ويقتل بلا ضوابط أو معايير، عديم القيم والمشاعر، خالٍ من أيّ فطرة إنسانية سليمة، مظلم العقل والروح، غير منتمٍ بالتأكيد إلى المجتمع البشري.
من الحماقة والسذاجة وأنت ترسم للطيار المنحرف، ذي الأعطاب النفسية، رسماً لتكوينه السيكولوجيّ، والذهنيّ، أن تطرح سؤالاً من نوع : هل يملك هذا “الكائن” ضميراً؟ هل يستطيع أن يغمض عينيه ويغفو على وسادته مرتاح الضمير بعد طلعات قاتلة مجرمة؟… إنّه سؤال إتيقي (أخلاقي) يفترض بدءاً في قاموس المفردات الأخلاقية وجود “ضمير” لدى كائن مماثل يستحيل تحديد نوعه، وهل هو من صنف آدميّ، أم من فصيل بهيمي وحشي خيالي. سذاجةٌ مفرطة افتراضُ تمتّع هذا الكائن الهجين بوازع أخلاقي أو قيمي من أيّ مندرج، حتى في سلّم الانحطاط والرداءة. الكائن الجحيميّ هذا تستوطن روحه، مثل سيّده بنيامين نتنياهو، شياطين الموت، دياجير الظلمة، دم الجريمة الساري في العروق، الراشح من عيني إبليس.
طيار “إسرائيل” الحربي مُجرَّد قاتل محلّق وليس مقاتلاً، القتل “إنجازه” اليتيم
قبل بضعة أسابيع، انتحر أحد الطيّارين الحربيين الصهاينة، إذ صادف بحالة نادرة أن استيقظت فيه بقايا ضمير، فعانى من اضطراب ما بعد الصدمة (ما بعد مهمّة القتل هنا)، فأطلق في الغابة رصاصةً في رأسه. أوّل ما يخطر في البال: لِمَ لا يكون الانتحار مخرجاً لجميع رفاقه، أو يعصون الأوامر ويمتنعون عن قصف المدنيين بسلاح مصانع الطائرات الأميركية الرهيبة؟ إن لم يفعلوا، يكون القتل رغبتهم طوعاً. فليبقوا في جحيم “وظيفتهم”، شياطين موت من علٍ، جبناء إلى يوم الفناء، فتلك دمغتهم على الجبين وعلامتهم اللاصقة. ليسوا أكثر من جيف نتانة بلا أدنى قيمة، تسم كائناً سويّاً. هم رمز لعنة التكنولوجيا و”تطوّر” آلات القتل والإبادة.
في الجانب العمليّ المقابل، يمكن لذوي ضحايا غزّة ولبنان اختبار “العدالة الدولية”، تحديداً محكمة الجنايات الدولية، التي جرّمت نتنياهو وشريكه يوآف غالانت، من خلال تقدّمهم بدعاوى ضدّ طيّارين شاركوا في القصف الإباديّ الرهيب، شرط الادّعاء عليهم بأسمائهم وفق آليات التقاضي أمام المحكمة، وليس ذلك بالمهمة العسيرة، إذ يمكن العثور بأكثر من وسيلة على أسماء هؤلاء المجرمين. عندئذ، فلتحلّ العدالة، أو على الدنيا السلام.
المصدر: العربي الجديد