حسن النيفي
ما إن بدأت العملية العسكرية التي أطلقتها الفصائل العسكرية للمعارضة السورية صبيحة السابع والعشرين من شهر تشرين الثاني 2024، حتى انطلقت بموازاتها الكثير من الأسئلة ذات الصلة بسيرورة المعارك ومآلاتها من جهة، وبما ستفرزه من تداعيات على المستوى السياسي المحلي والإقليمي من جهة أخرى.
وخاصة أنه منذ اليوم الثاني لانطلاقة عملية (ردع العدوان) باتت تظهر العديد من المؤشرات التي تشي بأن أهداف تلك المعركة لا يمكن اختزالها ببعدها المحلّي (السوري) فحسب، بل ثمة أطراف إقليمية ودولية هي معنية بما يجري سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، وربما لهذا السبب كان السؤال الأبرز والأكثر حضوراً: إلى أين ستمضي هذه المعركة، وما هي تخومها؟ ومن ثم: ما هي التداعيات المباشرة لتلك المعركة على المسارات السياسية سواء المُعطّلة منها أو التي ما تزال تحتفظ ببعض أنفاسها؟
استعادة المبادرة الميدانية
فيما يخص السؤال الأول يمكن الذهاب إلى انه من العسير الجزم حول موعدٍ زمني سيُقرعُ فيه ناقوسٌ مُؤذناً بتوقف القتال، ليس لأن ديمومة الحرب بحد ذاتها تخدمُ طرفاً ما، أو تلبي حاجة خفيّة لا يمكن معرفتها، بل لأن الحروب – غالباً – ما يكون من الميسور الإعلان عن انطلاقتها والتحكّم بإيقاد شرارتها الأولى، ولكن حين يتحول الشرر إلى كتل نارية ملتهبة فحينئذٍ يغدو للحرب مسارها الخاص، وتغدو سيرورة المواجهات وما يستجد من أحداث هي التي ترسم مآلات الحرب. إذ ربما من الصحيح أن عملية (ردع العدوان) انطلقت بدافع ردع الاعتداءات المتكررة لقوات الأسد وحلفائه على أرواح المدنيين سواء في إدلب وأريافها أو مدن وبلدات شمال سوريا، ولعله من الصحيح أيضاً أن طرد قوات الأسد من معظم المناطق والبلدات التي استولت عليها في شباط من العام 2020، يتيح المجال لعودة آلاف المواطنين ممن تهجروا وشُرّدوا إلى بيوتهم وديارهم، ولكن حين تكشف طبيعة المواجهة ان ثمة آفاقاً أخرى يمكن من خلالها مقاربة أهداف جديدة أكثر تجذّراً في القضية السورية، فلمَ لا يكون للمعركة – آنئذٍ – وجهتها ومسارها المتجدّد بتجدّد الفرص والأهداف؟
لقد عانى السوريون طيلة أكثر من عقد من عدوان مستمر على أرواحهم وممتلكاتهم، ولم يسلموا من وحشية الطغمة الأسدية حتى وهم في مخيمات النزوح، وقد استقوت قوات الأسد بكل شذّاذ الآفاق التي استمرأت قتل السوريين، فضلاً عن استقوائها بحلفاء دوليين ليسوا بأقلّ توحشاً من الطغيان الأسدي، واليوم إذْ أفضى تضارب المصالح إلى تحوّلات في مواقف الدول، بما فيها المتحالفة مع الأسد، أدّت إلى انزياح جزئي على الأقل، للغطاء الذي استظل به نظام دمشق طيلة سنوات مضت، فلمَ يُطلبُ من السوريين إذن، كفصائل عسكرية مقاتلة وكأشكال أخرى من الحراك الثوري، أن تتوقف حيث تعب أوأُنهِكَ الخصم، ألا يكون توقّفها في هذه الحالة ضرباً من ( الحَرَن) المجاني؟ وخاصة في ظل مناخ دولي تكاد تُجمِع فيه معظم الدول النافذة في العالم على أن مقاومة السوريين للوباء الأسدي باتت جزءًا من مقاومة شعوب المنطقة لمنبع الوباء الإيراني.
من الحرب إلى السياسة
أمّا فيما يخص التداعيات السياسية لمعركة (ردع العدوان) على القضية السورية، فيذهب قسمٌ من أصحاب الرأي إلى أن المتغيّرات الميدانية يمكن أن تتحوّل إلى ورقة رابحة بيد المفاوضين السوريين من روّاد مسار أستانا، كما يمكن أن يكون هذا المنجز الميداني وسيلةً ضاغطة على نظام الأسد بغية دفعه إلى استئناف مشاركته بلقاءات اللجنة الدستورية، ولعل حجّة أصحاب هذا الرأي تتمثل في كون المسارات السياسية سالفة الذكر إنما تستند إلى مرجعيات أممية ولا يجوز التفريط بها، وقد فات أصحاب هذا الاتجاه مسألتان اثنتان، تتمثّل الأولى في أن نظام دمشق، ومنذ صدور أول قرار أممي في حزيران 2012 وحتى الآن، لم يكن مستعدّاً لأي شكل من أشكال الحوار أو التفاوض الجدّي، لا حين كان محافظاً على تماسكه وجبروته ولا حين بات هزيلاً مهلهلاً، بل يمكن التأكيد على أن موافقته الشكلية على المشاركة في مسارات التفاوض إنما كانت وسيلة لمشاغلة الرأي العام الدولي من جهة، ولكسب المزيد من الوقت موازاة مع الاستمرار في حربه على السوريين بهدف الحسم الأمني من جهة أخرى، وقد استطاع الأسد أن يجعل من هذا التفاوض العقيم غطاء شرعياً لبراميله وقاذفاته التي لم تكف عن قتل السوريين طيلة السنوات السابقة. فيما تتمثّل المسألة الثانية بفقدان الكيانات الرسمية للمعارضة السورية – باعتبارها الجهة التي تفاوض باسم السوريين – للقدرة على إيجاد حيّز للمصلحة الوطنية السورية على طاولة المفاوضات، بل ربما أُرغمت – لأسباب عديدة – على أن تكون المصلحة السورية لاحقةً لمصالح إقليمية أو دولية أخرى، وبهذا لم يعد المصير السوري رهناً بأصحابه السوريين، بل مرهوناً بمصالح الآخر الخارجي. علماً أن مفهوم استقلالية المصلحة أو تحرّرها من أي تشابك أو تقاطع مع مصالح الدول الأخرى هو ضربٌ من الوهم والاستحالة، ولكن المسألة ليست في رفض تبادل المصالح أو رفض مفهوم المشاركة الندّية، بقدر ما هي رفض لمفهوم الارتهان والتماهي مع الآخر.
فيما يرى آخرون أن المعطيات الميدانية الجديدة ينبغي أن تكون هي السبيل نحو تجاوز الأطر السابقة للمفاوضات، بل يرى هؤلاء أيضاً أنه من الضروري إعادة النظر بمفهوم التفاوض، وذلك بناء على فهم حقيقي لطبيعة نظام الأسد، كما هو موجود بالفعل، وليس كما يصدّر ذاته للآخرين، أي أن يكون تعاطي السوريين مع نظام الأسد نابعاً من فهمهم ومعرفتهم بسلوكه و ممارساته، فأهل مكة أدرى بشعابها، بل ربما يرى كثيرون أن العودة إلى مسارات التفاوض السابقة، ووفقاً للآليات والمحدّدات ذاتها، إنما هي تفريط كبير بما تحقق على الأرض من منجز ميداني، فضلاً عن أن العودة إلى التفاوض مع الأسد لا تعني سوى إعطائه المزيد من الوقت لالتقاط أنفاسه لممارسة المزيد من الخداع والمماطلة، ولعل الأجدى من ذلك – وفقاً لأصحاب هذا الرأي – هو استمرار السعي – ميدانياً وسياسياً وحقوقياً وإعلامياً – لتضييق الخناق على النظام الذي يزداد تفسّخه يوماً بعد يوم، وحينئذٍ يكون المسعى الحقيقي نحو البرهنة للعالم على عدم صلاحية الطغمة الأسدية لحكم سوريا، وليس استجدائه من أجل التفاوض.
المصدر: تلفزيون سوريا