صقر أبو فخر
ها هي سورية تمرّ اليوم بانعطافة تاريخية هائلة، إما أن تعود قمراً يُزيّن بلاد الشام كلّها، أو تغرق في الفوضى والرثاثة والاحتراب. ومهما تكن التوقّعات، فقد أذهلت سورية نواظر العرب جميعاً في ديسمبر/ كانون الأول 2024، وأصابتنا كلّنا بالذهول الممزوج بالفرح والقلق معاً. مبارك إذاً ما فعل السوريون الذين احتملوا النوائب كلّها أكثر من 50 سنة. وتقدّم لنا الحوادث السورية الجارية حكمةً ساطعةً هي أن من المحال توقّع ثوران البراكين التي تبدو خامدة، أو الاعتقاد أن اشتعالها يقارب المحال. لنتذكر أن شيوخ الأزهر، حين سمعوا صوت القنبلة الأولى التي أطلقها جيش نابليون بونابرت على القاهرة، راحوا يردّدون بجزع: “يا خفي الألطاف نجّنا ممّا نخاف”. وكانت والدتي لا تنفكّ داعيةَ صبحَ مساء “اللهم استرنا من اللايذات”، أي من اللائذات بتخفيف الهمزة. واللائذات هي الأمور الخفيّة غير المنتظرة التي تلوذ بالريبة والعواقب السيئة. وها أنا الآن “أدعو” من صميم قلبي، مثل شيوخ الأزهر ووالدتي، أن تتجنّب سورية اللائذات القاتلة كي تسلك طريقها نحو الحرية والديمقراطية والعدالة والمساواة والعروبة. نعم، العروبة المتجدّدة إطاراً تاريخياً وحضارياً وثقافياً، علاوة على أنها إبداع لغوي ومعرفي وثقافي لمعظم السكّان، لا العروبة الإقصائية المتعالية أو حتى العروبة الرومانسية. والدرس الذي قدّمته سورية في ديسمبر (2024) أن على الكُتّاب وراصدي الأحوال، وصاحب هذه المقالة منهم إلى حدّ ما، ألا يجازفوا في استنتاجاتهم؛ فالوقائع فضحت كثيراً من التحليلات السائبة والخائبة وأصحابها المتعالمين. لقد حذفت الحوادث السورية من رؤوسنا، خلال أسبوع فقط، كثيراً ممّا كنّا نردّده، ورمَتْ في سلال المهملات أطناناً من الهذيانات السياسية التي يندرج بعضها في مساخر الكلام، فيما يبدو بعضها الآخر باهتاً بلا أيّ تعبير أو اعتبار. ويحلو لكاتب هذه السطور أن يستعير من الأديبة السورية الكبيرة غادة السمّان عنوان روايتها المشهورة “يا دمشق وداعاً” (للقاصة السورية أُلفة الإدلبي أيضا مجموعة عنوانها “وداعاً يا دمشق”) ليقول إن دمشق (بل سورية) التي عرفناها جيداً منذ مطالع سبعينيّات القرن المنصرم، اندثرت، أو هي في طريقها إلى الاندثار، ولن تعود أبداً. وما عرفناه منها في الحقبة الدارسية ستبقى آثاره ماثلة بالتأكيد، لكن كباقي الوشم في ظاهر اليد. وقبل ألف و400 سنة وقف آخر حاكم روماني لسورية باكياً عند ثغر أنطاكيا، بينما قواته تتقهقر أمام جحافل الفتح العربي، وقال: “وداعاً يا سورية؛ وداعاً لا لقاء بعده”. الحدث السوري الذي أصابنا بالذهول والانبهار، سيُذهل أبصار القوى السياسية السورية الجديدة، نرجو ألا يُذهب معه نورها وبصيرتها في الوقت نفسه. ومهما يكن الأمر، فإن سورية الجديدة التي نتطلع إليها هي سورية العربية الديمقراطية القوية. وفي ما عدا ذلك لن تكون سورية إلا سورية الممزّقة والضعيفة والمفكّكة الملتصقة أجزاؤها بلا التحام حقيقي، وهذه هي مصلحة صافية لإسرائيل أولاً، ثمّ لتركيا، مثل حال العراق المفكّك متلاصق الأضلاع الذي هو، في حالته تلك، مصلحة إيرانية خالصة وإسرائيلية أيضاً. وما نخشاه حقّاً أن تكون غاية إسرائيل في تدمير كلّ شيء في سورية (حتى الجمارك ومراكز البحوث العلمية) هي فرط الجماعة الوطنية السورية، وبالتالي فرط آخر تعبير عن الدولة التي نشأت عقب الاستقلال عن فرنسا في سنة 1943. وما تفعله إسرائيل إنّما هو تعبير همجي عن “نظرية كوم النمل”، أي إنزال القبضة العنيفة على كوم النمل، فيموت مَن يموت، وتهرب البقايا في جميع الاتجاهات، ثمّ يعاود النمل التجمّع مجدّداً، لكن تحت الهيمنة الجديدة للقبضة الحديدية القديمة.
نتطلّع إلى سورية الجديدة العربية الديمقراطية القوية. وفي ما عدا ذلك لن تكون سورية إلا سورية الممزّقة والضعيفة والمفكّكة
هناك نغمات سياسية ترنّ بين الفينة والأخرى، وتدعو إلى صوغ دستور جديد لسورية ينصّ على أن في سورية قوميتَين متساويتَين هما العربية والكردية. لماذا إذاً تُغفَل الإثنيات الأخرى كالأرمن والتركمان والشركس والأرناؤوط والداغستان واليونان والفرس؟ هنا، في هذه الحال، لا يُعتدّ بالعدد البتّة. لنتذكّر (إن كانت الذكرى تنفع) أن انسحاب ممثّل حزب الوحدة الديمقراطي الكردي من مؤتمر المعارضة في إسطنبول (15/7/2011)، كان قد دقّ مبكّراً جرس الإنذار في هذا الميدان حين اعترض على عبارة “الجمهورية العربية السورية”، وطالب باستخدام عبارة “الجمهورية السورية” فحسب.
سورية بلد عربي تماماً، مثلما أن فرنسا فرنسية، وألمانيا ألمانية، وإيطاليا إيطالية، وإسبانيا إسبانية. ولا يحتمل الوضع السوري الخطر والخطير جدّاً مثل هذه “المرقعة” السياسية الفارغة، ولا سيّما أن الدساتير الحديثة والمدنية والديمقراطية لا تقوم على الرابطة القومية، بل على رابطة المواطنة، وأن تعاقد المواطنين مع الدولة هو دستورياً تعاقد بين مواطنين أحرار متساوين، أي بين مواطنين ودولة ديمقراطية، لا بين جماعات ودولة. فالقومية هي رباط حضاري وتاريخي وثقافي ولغوي تربط بين مجموعة من الأفراد لها هُويَّة محدّدة، لكنّها ليست رابطة لهذه المجموعة مع الدولة. فالإثنيات في سورية (وهي جماعات أقلّوية وبعضها حديث الوجود في سورية)، يمكنها أن تعبّر عن هُويَّتها بحرّية تامّة من خلال هيئات المجتمع المدني، أي من خلال الجمعيات الثقافية والمؤسّسات التعاضدية والأندية الرياضية والفنية وغيرها، وتستطيع أن تطوّر شخصيتها الإثنية أو القومية، وهُويَّتها التاريخية، بالاعتناء بالفلكلور واللغة والأزياء والطعام والتاريخ والثقافة. ولهذا يصبح من الضروري التشديد في سورية المقبلة على عدم مشروعية قيام أحزاب دينية أو إثنية. فالأحزاب الديمقراطية تكون مفتوحة لجميع أفراد الشعب بصفتهم مواطنين أحراراً في دولة حرّة، وليس بصفتهم أفراداً في جماعة دينية أو إثنية أو قومية. وهذا يعني أن القانون مُلزَم بمنع جماعة كالإخوان المسلمين مثلاً من تأليف حزب كهذا، لأن القانون لو أباح الحقّ لهؤلاء في تأليف حزب بهذه التسمية، لكان عليه أن يبيح في الوقت نفسه قيام حزب للإخوان المسيحيين، وحزب للإخوان العلويين، وحزب للإخوان الدروز، وحزب للإخوان الإسماعيليين، وحزب لإخوان الشياطين… وهكذا. وفصل المقال في هذا المقام أن أيّ حزب تكون العضوية مقصورة فيه على طائفة أو إثنية أو قومية هو حزب غير مقبول على قاعدة المواطنة والديمقراطية والمساواة والعدالة. فالحزب مؤسّسة من مؤسّسات المجتمع المدني، أي أنه ميدان سياسي متاح لجميع المواطنين، وليس لفئة واحدة، ولا يجوز أن تكون عضوية حزب ما محصورة بجماعة من السوريين دون غيرها، أو بطائفة دينية دون أخرى. وأيّ حزب يجب أن يكون متاحاً ومفتوحاً لجميع المواطنين بلا استثناء.
ظهرت الدولة الحديثة في أوروبا بالتدريج دولةً تعاقديةً بين المواطنين الأحرار، أمّا الدولة العربية الأولى فظهرت (منذ البداية) دولةً لجماعة “ّدمّية”، أي أن الرابط الأساس بين الحاكمين والرعية هو رابطة الدم، ولم يكن من المستغرب في تلك الحال أن تسمّى الدولة باسم القبيلة كالدولة الأموية والدولة العباسية والدولة العثمانية والدولة السعودية والدولة الهاشمية. أمّا الأمّة (واستطراداً القومية)، فلها حقل آخر، ولا سيّما أننا نتعرّض هنا للدولة المقبلة في سورية، وليس لمفاهيم الأمّة وهي كثيرة. لنتّخذ ألمانيا مثالاً لذلك، حيث الأمّة هي التي أنشأت الدولة على أساس عرقي وتاريخي ولغوي. وفي فرنسا فإن الدولة هي التي أسّست الأمّة على أساس قيم عصر الأنوار ومبادئ الثورة الفرنسية، وفي مقدّمها العَلمانية. وفي أميركا وكندا وأستراليا، فالدولة، وهي دولة مستوطنين مهاجرين، هي التي أسّست الأمّة على أساس المواطنة لا على أساس الإثنية. بينما في إسرائيل وجنوب أفريقيا، فالمهاجرون أنشأوا دولةً على أساس عنصري وفي سياق كولونيالي. ومع ذلك، فقد انتهت الدولة العنصرية في جنوب أفريقيا، ولم يبقَ من العصر الكولونيالي إلا دولة إسرائيل الفاشية. فعلى أيّ أساس يريد بعضهم أن يقيم سورية الجديدة؟ أَعلى أساس إثني أم على أساس الشريعة أم على أساس المواطنة المتساوية؟ وهذا كلّه يُضاف إلى التحدّيات، وهي كثيرة، وإلى المشكلات المتراكمة وهي أكثر من أن تُحصى؛ فمطالب الإثنيات (الكرد والتركمان والسريان والأشوريين والكلدان)، تهدّد بتمزيق ما بقي من النسيج السوري المتهتّك. وثمّة مصير المليشيات (حيث لا دولة مع وجود المليشيات)، وهو أحد التحدّيات العاجلة. وكذلك الاحتلال الإسرائيلي ومصير الجولان، وهما نقطتان شديدتا الأهمية للدولة الجديدة، علاوة على الدستور الجديد الذي سيحدّد صورة سورية المقبلة، دولة مركزية أو لامركزية أو فيدرالية أو كونفيدرالية (؟).
يمكن للإثنيات في سورية أن تعبّر عن هُويَّتها بحرّية تامّة من خلال هيئات المجتمع المدني
وفي هذا الميدان يلوح لكاتب هذه السطور أن الفيدرالية هي العنوان السياسي المقبل، لا في سورية وحدها، بل في المنطقة العربية أيضاً. فليبيا، على سبيل المثال، دولة فيدرالية كما كانت دائما (برقة وفزّان وطرابلس)، والعراق صار بفضل بول بريمر وجورج بوش وبعض العراقيين دولةً فيدراليةً بعاصمة واحدة ذات غلبة شيعية (إقليم شيعي وإقليم سني وإقليم كردي، وربّما لاحقاً ينشأ إقليم للأقليات في سهل نينوى). واليمن دولة فيدرالية (شمال وجنوب)، والمغرب دولة فيدرالية (المغرب والصحراء المغربية وحكم ذاتي لبعض أقاليم الأمازيغ). وقد فشل الحلّ الفيدرالي في السودان فانفصل جنوبه عن شماله، وما برح شمال السودان يتفكّك إلى أقاليم متعاركة مثل دارفور وكردفان وغيرها. والغريب أن لا أحدَ من القوى العالمية يعرض الفيدرالية على إسرائيل مثلاً أو على إيران أو تركيا، مع أن بعضهم لم يتورّع عن عرض الفيدرالية على الفلسطينيين (الضفة الغربية وقطاع غزّة).
لا بدّ أن السوريين الذين يحتفلون في هذه الآونة بنهاية عهد وبداية عهد لن يتناسوا أن إسرائيل وسّعت احتلالها للأراضي السورية، وأن الاحتلال الأميركي ما برح جاثماً فوق الأرض في شمال شرق سورية، وفي مثلث التنف، وأن الوجود العسكري التركي ما زال قائماً بقوة في الشمال السوري. وحبذا لو أن كثيرين تنبّهوا إلى أن قضية فلسطين، ولو بالمعنى الجيواستراتيجي، هي قضية حياة أو موت لسورية. فإذا كان المأخذ على النظام السوري الفارط هو عدم قتاله إسرائيل لتحرير أرضه أو للدفاع عن بلاده، فإن الموقف الصحيح اليوم (وفي كلّ يوم)، هو الإصرار على العداء لإسرائيل، وعلى عدم التطبيع أو التعاون معها، أو التهليل لقصفها مواقع لبنانية أو سورية. ويجب ألا ينسى أحد أن سورية لا تعيش عزيزة إلا ببعدها العربي، ومن غير ذلك ستصبح دولةً هامشيةً مثل مصر بعد “كامب ديفيد” التي أدارت ظهرها للعرب حينذاك، واعتقدت أن دولارات أميركا ستنعشها، فلم تنعشها قط، بل أغرقتها في مشكلات ما زالت تنوء بحملها، وتعجز عن النهوض منها.
سلام لسورية العربية المقبلة.
المصدر: العربي الجديد