عدنان عبد الرزاق
الأرجح أن الإجابة المثلى، عن سؤال مفتوح ومحيّر من عيار، هل سورية بلد غني أم فقير؟ يجوز الوجهان. بمعنى أن سورية غنية، بل وغنية جداً، وبالوقت نفسه، انطلاقاً من واقعها الراهن، سورية فقيرة، بل وفقيرة جداً. وليستوي القول حول الشيء ونقيضه، لا بد من رمي الأدلة حول كل ضفة، أي كيف أن سورية غنية وجداً، وبالوقت ذاته، فقيرة وجداً.
نبدأ بمحاولة تأكيد أن سورية غنية من خلال الإجابة عن امتلاكها عوامل أو محددات القوة. ربما رأس المال البشري، هو أهم عوامل القوة وأكثرها فاعلية وإنتاجية ودفعاً للتطوير، وسورية التي تمتلك تراكم خبرات، إن بالصناعة أو التجارة أو الأعمال الحرفية، يعزز، منتجوها وشبابها، قوتها. وإن كان هذا الشرط مربوطاً بعاملين اثنين.
الأول، إعادة بث الحياة والأمل لدى المنتجين بالداخل، وإغراء وجذب عمالتها ورجال أعمالها بالخارج، خاصة الذين فروا من انعدام الأمل خلال حكم الأسدين عموماً، أو أثناء الملاحقة والتضييق والابتزاز، خلال سني الثورة الممتدة منذ مطلع عام 2011. ما يجعل هذه الثروة البشرية المهاجرة والمقدرة بأكثر من 6 ملايين سوري، محط أنظار وأولوية لدى أي حكومة سورية بعد سقوط النظام المخلوع والطارد للكفاءات.
والشباب السوري المهاجر، أكدوا أنهم عامل قوة ومسرّعاً للنمو والتطور وتشغيل الأموال، بل وامتصاص البطالة، حتى ببلدان لجوئهم، ولعل مخاوف ألمانيا اليوم دليل، وعلو صوت أصحاب الأعمال بتركيا بعد بدء عودة السوريين مثال، والنهضة بقطاعات الغذاء والخدمات بمصر مؤشر، وهكذا إلى ما هنالك من دلائل تركها السوريون أنى حلوا وارتحلوا خلال تهجيرهم وملاحقتهم ومخاوفهم من الاعتقال والموت.
ويأتي الدليل الثاني على قوة سورية في ثرواتها الطبيعية، فسورية وبناء على حجمها وعدد سكانها، تعتبر من الدول الأولى المنتجة للفوسفات حول العالم، إذ يقدر حجم احتياطي البلاد من الفوسفات بنحو ملياري طن تقريباً. تنتج سنوياً 2.5 مليون طن، بينما تصدر مليوني طن، ويُستهلك الباقي داخل البلاد.
الغاز السوري الذي لم يزل حتى اليوم، من كلمات سر ثروات سورية، إن لحجم إنتاجه أو احتياطياته أو حتى للمؤمل اكتشافه بالبر والبحر، فالاحتياطيات المؤكدة من الغاز الطبيعي في سورية نحو 9 تريليونات قدم مكعبة، في نهاية عام 2010 تمثل 0.1% من إجمالي الاحتياطيات العالمية. وهذا طبعاً المكتشف أو المعلن، إذ ثمة ملامح لكنوز غاز بالبحر المتوسط، أشارت لها جهات دولية عدة، منها ما جاء من توقعات عن الهيئة الجيولوجية الأميركية بوجود احتياطيات طبيعية أخرى في البحر، لم تُكتشف تقدر بنحو 700 مليار متر مكعب.
وأمام هذه الأرقام الهائلة، لم تستثمر هذه الثروة، حتى بعد اكتشافها بعقود، إذ لم يزد إنتاج سورية من الغاز عن 30 مليون متر مكعب يومياً، حتى مطلع الثورة، قبل أن يتراجع إلى أقل من 10 ملايين متر مكعب ما أعاق حتى توليد الكهرباء واضطرار سورية للاستيراد.
ولأننا نبحث بعوامل القوة والغنى ونتطرق إلى ما هو تحت الأرض، يأتي البترول منافساً بهذا المقام، بل ويعد عامل قوة حقيقياً ومصدر غنى، ساهم حتى عام 2010 بنحو 24% من الناتج الإجمالي لسورية، و25% من عائدات الموازنة، و40% من عائدات التصدير.
لكن هذا العامل، كغيره من نقاط القوة التي حولتها حرب الأسد على سورية والسوريين، قبل أن تنتصر ثورتهم ويهرب الأسد، إلى نقطة ضعف واستنزاف للقطع الأجنبي جراء استيراد نحو 200 ألف برميل يومياً، فبعد إنتاج وصل لنحو 400 ألف برميل يومياً، تصدر سورية نصفه، تراجع إلى أقل من 70 ألف برميل تسيطر “المليشيات الكردية” على أكثر من 55 ألف برميل منه.
وخلال الحديث عن نقاط قوة الاقتصاد السوري، لا يمكن استبعاد الموقع الجغرافي، إذ يشكل الموقع الجغرافي عقدة ربط مهمة لطرق التجارة الدولية بين الشرق والغرب، ونقطة عبور مشروعات محتملة للنفط والغاز من الجنوب إلى أوروبا، مروراً بتركيا، التي تجاورها بشريط حدودي يمتد طوله نحو 900 كيلومتر.
وربما بمقولة، إن استثمرت سورية موقعها الجغرافي والترانزيت وخدماته، فسينام السوريون إلى ما بعد الظهر وتزيد دخولهم عن المواطنين الخليجيين، مؤشراً، وإن كان فيه بعض مبالغة، فأن تكون سورية الممر شبه الإلزامي لتركيا، نحو البلاد العربية وأفريقيا، فذلك وحده، يدر على سورية الأموال، وينشّط قطاعات، ويجعل الجغرافيا ضمن أهم نقاط القوة.
ولا يمكن القفز عن السياحة، خلال التطرق لنقاط القوة، إذ في سورية من تنوع وتعاقب حضارات ولقى وأوابد، ما يجعلها محط أنظار وموقع استقطاب للسياح حول العالم، فعدد زوار البلاد بلغ في عام 2010 نحو 8.5 ملايين سائح، وبلغت عائدات القطاع في العام نفسه نحو 8.4 مليارات دولار، ما يشكل نسبة 14% من الاقتصاد، لكن هذه الثروة وهذا القطاع برمته تحول للحياد إن لم نقل إنه مستنزف، جراء ترميم المواقع، وأجور العاملين فيه، بعد أن استقرت عائدات السياحة عند الصفرية، عدا بعض المتخفين بسياحة دينية، ولسنوات طويلة.
وربما بقطاع الزراعة ووجودها بنحو ثلث مساحة سورية، نقطة قوة أخرى مبددة، كما بالصناعة نقطة قوة إنتاجية وتصديرية وعامل مهم بوفرة السلع وتوازن الأسواق، ولكن قبل التهديم والتهجير وتراجع وإعاقة الإنتاج.
وأما نقاط ضعف الاقتصاد السوري، فربما يتفاجأ القارئ إن أعدنا نقاط القوة ذاتها، مع إضافة أثر التجهيل والتخلف بالتعاطي الاقتصادي والابتعاد عن التكنولوجيا واقتصادات المعرفة، في الإنتاج والتصدير، كماً ونوعاً. فالكادر البشري والقوى العاملة، باتت عامل ضعف، لفترة محددة على الأقل، ريثما يعود أصحاب الخبرات والمال من مهاجرهم ويتم تأهيل وإعادة تدريب من بقي بسورية، أو من عاد من مخيمات اللجوء ودول الجوار.
كما بالقوى العاملة اليوم، بالمنشآت المهدمة، عامل ضعف إضافي جراء سياسة الأسد بتشغيل الموالين، ما أنتج بطالة مقنعة تزيد من تكاليف الإنتاج وتعوق أي تطوير للمؤسسات الخدمية والشركات الإنتاجية.
والنفط بات من أكثر القطاعات ضغطاً، بعد التحول من الوفرة والتصدير إلى الندرة والاستيراد، وكذا الصناعة المهدمة والمحكوم أربابها بزيادة التكاليف وصعوبات التصدير واستيراد المواد الأولية، وذلك يقاس على معظم القطاعات التي حوّلها النظام المخلوع لمواقع استرزاق له ولعصابته، بعد أن هجر جلّ العاملين فيها وشوّه سمعة الصناعة والتجارة السورية العريقة.
قصارى القول: عانى الاقتصاد السوري من استنزاف وسرقات ما حطمه، وتراجعت نسبة النمو إلى 1% وأحياناً لصفرية وسلبية، خلال سنوات الثورة، وتعمّد النظام المخلوع تحطيم سورية بمن وما فيها وعليها.
ومن الدلائل البيّنة على التحطيم، تراجع الناتج المحلي الإجمالي من نحو 62 مليار دولار عام 2010 إلى أقل من 7 مليارات العام الماضي، وليعود الناتج إلى ما كان عليه، وفق نسبة النمو الحالية أو حتى إن ارتفعت قليلاً، فعلى السوريين أن ينتظروا ربما لسبعين سنة. رغم أن الناتج عام 2010 هو أقل من نصف ما يجب أن يكون بسورية، والتي أشرنا لنقاط قوتها وما تملك من ثروات.
ولكن، ليسرّع السوريون بالنمو ورفع حصة الفرد من الناتج ويصلوا حافة التعافي، كما بلدان كثيرة مرت بما عانوه من تهديم البنى والإنسان والهياكل، مثل ألمانيا، لا بد من نسبة نمو لا تقل عن 7% وهي ممكنة ومتاحة نظراً للمتوقع من الإقبال على الإعمار والمساعدات، ولرفع الاستثمارات الخارجية بما لا يقل عن 10% مما كانت عليه قبل عام 2011.
وذلك لن يتحقق دون الأمان وإصدار قانون استثمار جاذب ومناخ عمل اقتصادي يتوازى، إن لم نقل يتفوّق على ما تطرحه دول المنطقة، لأن إغاثة السوريين، فقط لأنهم ظلموا أو لأنهم يستحقون، فذلك قد نسمعه خلال المؤتمرات الصحافية بعد زيارة الوفود أو ربما نقرأه بقصيدة أو بمقال محاباة.
نهاية القول وعود على بدء، سورية بلد فقير جداً اليوم، نسبة فقر ساكنيه تزيد عن 90% ودخلهم الأدنى بالعالم، ديونها تزيد نحو 20 ضعف ناتجها الإجمالي، وجميع نقاط قوة الاقتصاد، مشلولة أو مهدمة.
ولكن، فقر السوريين ليس قدراً، بل على العكس، هو اختبار للعودة ثانية للغنى والإعمار ولعب الدور الذي تستحقه سورية بالمنطقة، بيد أن ذلك لن يأتي عبر الأماني ورهن مقدرات سورية أو حتى الانطلاقة من القروض الدولية، بل من البدء، من التعليم والصحة وحرية الرأي وفتح باب المساهمة والعمل والاستثمار، لكل من يحقق أهداف الدولة… أجل الأهداف التي لا بد أن تكون بوصلة ودفع ووقاية ووفق ما تقتضيه المرحلة ويتناسب مع المحيط والعالم.
المصدر: العربي الجديد