عاطف ابو سيف
هرب بشار الأسد غير مأسوف عليه فلسطينياً، وانتهى حكمه وحكم عائلته الذي دام أكثر من نصف قرن، من دون أن يطلق رصاصة واحدة من أجل فلسطين، بل نجح دائماً في استغلال القضية الفلسطينية في إحكام قبضة حكمه على البلاد، وتسخير مقدراتها من أجل حماية هذا الحكم، جارّاً خلفه بعض الفصائل الفلسطينية. كانت فلسطين شعاراً كبيراً، وكان توظيف قضيتها وسيلةً من أجل الاستمرار في لعب دور غير موجود من الأساس. وفيما كانت هضبة الجولان محتلّةً فإن نظام الأسد (الأب والابن) لم يفعل شيئاً من أجل استعادتها، ولا ناضل من أجل إيجاد مقاومة فيها. وربّما تبدو استعادة حديث المشير عبد الحليم أبو غزالة عن عدم تنفيذ حافظ الأسد الضربة الجوية كما كان متفقاً عليه بين مصر وسورية خلال حرب 1973 مثيرةً، إذ عكس ذلك عدم رغبة الرجل في أن يقاتل في أيّ حال، بل على العكس، وكما يمكن الفهم من حديث أبو غزالة، فإن عدم تنفيذ الضربة أضرّ باستراتيجية الحرب، وما كان يمكن لها أن تحققه لو تمّت، فيقول “لكنّا فعلنا بالطيران الإسرائيلي ما فعلته إسرائيل بطيراننا من تعطيل تام خلال حرب 1967”.
في المقابل، ظلّت الشعارات الكُبرى الشيء الوحيد الدال على النظام وعلى علاقته بفلسطين وبكفاح شعبها، بل إن تدخّلات نظام الأسد في تفريق الحالة الوطنية الفلسطينية أمر لا يخفى على متابع الشأن الفلسطيني، وربّما دعمه المنشقين من حركة فتح، بعد عام من حرب بيروت (1982)، لا بدّ أن يظلّ حاضراً عند قراءة مفهوم النضال من أجل فلسطين بالنسبة لعائلة الأسد 53 سنة، إذ كان القصد تدمير حركة فتح بما تشكّله من قوة حقيقية في تماسك النظام السياسي الفلسطيني، وقد استبيح الدم الفلسطيني بشكل سافر قبل ذلك في تلّ الزعتر (أغسطس/آب 1976)، في تلك المذابح المؤلمة للوعي العربي التي نفّذها جيش الأسد بحقّ الفلسطينيين والمقاومة الفلسطينية. … ثمّة شيء “جيني” مضادّ للوطنية الفلسطينية، وللنضال والكفاح الفلسطينيين في دولة الأسد، شيء يجعل التحرّك ضدّ الوطنية الفلسطينية أمراً محموداً، ويسعى إليه النظام.
لم يكن نظام الأسد صديقاً للوطنية الفلسطينية بجوهرها، رغم استضافته فصائل كثيرة من مختلف ألوان الطيف السياسي الفلسطيني
يبدو التذكير بذلك مهمّاً حين يُنظَر إلى مستقبل علاقة الفلسطينيين بسورية الجديدة، وهي علاقة بحاجة إلى مراجعة وتمحيص، ولوضع رؤى مناسبة لها، حتى تعود سورية حليفاً حقيقياً لنضال الفلسطينيين الوطني. أولاً، من حيث المبدأ، فإن التدخّل في الشؤون الداخلية للدول العربية كان وما زال يساوي في أدبيات الحركة الوطنية الفلسطينية مبدأ “استقلالية القرار الوطني”، لأن عدم التدخّل في شؤون الآخرين يعطيك قوّة لرفض تدخّلهم في شؤونك. وهو مبدأ يحفظ التوازن في الحاضنة العربية، التي يجب أن يسعى الفلسطينيون دائماً من أجل تماسكها. ما يجري في الدول العربية أمر خاصّ بها، صحيحٌ أن لنا وجهة نظر في بعض القضايا، ولكن وجهة النظر هذه يجب ألا تُترجَم موقفاً واصطفافاً في الصراعات الداخلية للنظم العربية، أو في داخل النظام الواحد. وبالمراجعة السريعة، فإن هذا الفهم حمى الوجود الفلسطيني في مرّات كثيرة. ما يهمنا يجب أن يكون مصلحة الشعب الفلسطيني ووجوده المؤقت في بلدان الجوار، أمّا حين نصبح طرفاً في هذا الصراع أو ذاك فإننا بذلك لا نتدخّل في سياسات الدول فقط، بل أيضاً نعرّض وجود أبناء الشعب الفلسطيني للخطر.
لم يكن نظام الأسد صديقاً للوطنية الفلسطينية بجوهرها، رغم استضافته فصائل كثيرة من مختلف ألوان قوس قزح الطيف السياسي الفلسطيني، من أقصى اليمين الإسلامي، من حركتي حماس والجهاد (حماس ارتدّت لاحقاً عليه واصطفت مع التنظيمات الإسلامية الإخوانية)، إلى أقصى اليسار، خاصّة الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين – القيادة العامة، وبعض الفصائل الأخرى. وفي مراحل مختلفة، أصرّت بعض الفصائل على تعريف نفسها حليفةً للأسد، وبالتالي عرّضت الفلسطينيين في مرّات كثيرة للانتقاد وللمضايقات خلال الصراع السوري من أجل التخلّص من الأسد. ما أقوله إن استضافة الأسد تلك التنظيمات كلّها كان من باب المناكفة الواضحة لمنظّمة التحرير ولقيادتها، ولحركة فتح تحديداً. وربّما يخبرنا المعتقلون السياسيون من “فتح”، الذين مضى على وجود بعضهم أربعين سنة في السجون السورية، القليل عن هذه المناكفة التي كانت تسعى (ضمن أشياء كثيرة) إلى تقويض الكفاح الوطني الفلسطيني. تخيّلوا مثلاً أن تلك التنظيمات في دمشق لم يكن يسمح لها باستخدام الأراضي السورية المحتلّة لتنفيذ عمليات ضدّ إسرائيل. يمكن لك أن تظلّ في دمشق مثلما تشاء، وتسبّ وتنتقد قيادة منظّمة التحرير، وتوجّه العمليات إذا شئت، ولا بأس في أن تكون أكبر ثوري في العالم، ولكن لا تعمل شيئاً من داخل الأراضي السورية. يجب أن تظلّ هذه الثورية بعيداً من سورية، لا ينتج عنها أيّ “توريط” للنظام في صراع مع إسرائيل. كان يضحكنا كثيراً أن نسمع الأخبار السورية تقول إن سورية ستردّ على إسرائيل في الوقت المناسب، وكأنّ هذا الوقت المناسب غير مناسب في أيّ حال.
على الجميع أن يفيقوا من النوم، ويدركوا أن هذا النظام ليس مأسوفاً عليه، وأن علينا، نحن الفلسطينيين، أن نفكّر بشكل حقيقي، خاصّة تلك الفصائل، في مستقبل علاقاتنا مع سورية الجديدة، حمايةً لكفاحنا التحرّري ولمصالح الشعب الفلسطيني ولقضيته. القصّة ليست “نحن مع من”، بل يجب أن تكون “من معنا”، والمؤكّد أن نظام الأسد كان مع تمزيقنا وتفريقنا، ولم يكن مع نضالنا، فهو حتى لم يناضل في الجولان المحتلة. لقد شكّل الموقف الرسمي الفلسطيني الصادر من الرئاسة، ومن سفارة فلسطين في دمشق، جوهر هذا الفهم، فيجب أن يكون الفلسطينيون مع الشعب السوري، ومع الدولة التي يختارها، والمؤكّد أن الشعب السوري اختار ما جرى في 8 ديسمبر/ كانون الأول 2024، ووقف معه وانتظره عقوداً، فالتخلّص من عائلة الأسد عنى حرّية الشعب السوري، فشعب تحت القمع لا يمكن له أن يستردّ أرضه المسلوبة.
علاقة الفلسطينيين بسورية بحاجة إلى مراجعة وتمحيص، حتى تعود سورية حليفاً حقيقياً لنضال الفلسطينيين الوطني
تحدّيات كثيرة تنتظر علاقة سورية الجديدة بفلسطين. سيكون ملفّ تلك الفصائل جزءاً منها، ويجب أن يكون الموقف (جماعياً) أننا كلّنا مع خيارات الشعب السوري، ومع وحدة القُطر السوري، ومع تحقيق سورية مرحلةً انتقاليةً سليمةً، واستعادة الدولة السورية عافيتها، وعودتها إلى شعبها بعد أن اختُطِفت أكثر من نصف قرن. كما أن هذا يجب أن يكون على قاعدة تنسيق العلاقة مع الدولة السورية الجديدة، من أجل ضمان تناغم المواقف، وتعزيز مناعة الموقفين السوري والعربي. والأسلم في ذلك كلّه أن يتم عبر موقف عربي جماعي، فلا تُترك سورية الجديدة للضغوط الدولية من أجل التأثير فيها. استبقت إسرائيل هذا كلّه باحتلال جزء آخر من الأراضي السورية، والخروج من هذا الجزء سيكون مطلباً فورياً بعد استقرار الوضع، وليس أبعد من ذلك. بمعني، بدلاً من الانسحاب من الجولان سيُنسَحب من تلك المناطق الجديدة. بمعنى آخر، مقايضة. أيضاً هذا بحاجة إلى موقف عربي موحّد.
استُغلّت فلسطين عقوداً، ودُفِع بالسلاح لشقّ الصفّ الفلسطيني، وتمزيق الحالة الوطنية، وإراقة الدماء بين أبناء الشعب الواحد. ثمّة مرحلة جديدة بحاجة إلى تفكير جديد، وانفتاح أكثر على مكوّنات سورية الجديدة لحماية مصالح الشعب الفلسطيني، والتصالح مع الماضي، والبحث المشترك معها عن الحاضر وآفاق المستقبل.
المصدر: العربي الجديد