زياد بركات
كل عام وأنت بخير يا غزّة، أطفالك، نساؤك، رجالك، بيوتك الفقيرة، سماؤك التي تمطر ناراً وموتاً عميماً، ترابك الذي كان ذهباً، وأسماك بحرك الذي حُرِمتْ منه.
لكنّك لست بخير يا غزّة. لم تكوني كذلك في الأمس البعيد، ولم تكوني اليوم. كأنما خُلقِت ثمّ تُركت في هذه الأرض وحدك. كأنّما لعنة غامضة، كونية، لا رادّ لها أُنزلتْ بك ولا تفارقك، فإذا أنت طفلتنا التي احترق وجهها بالنار في هذا الكون الأعمى.
وأنت يا رب. خلقتنا كلّنا، خلقت الطير في السماء، وهدهد سليمان، وناقة صالح، والصافنات الجياد اللاتي خلبن لبّ سليمان بن داود، الذي في ثياب الحرب كان.
لقد خلقت النمل والنحل وثعبان آدم، وخلقت التوت والرمّان، والبحار والظلمات، والنور الذي هو أنت والنار التي هي شيطان، وخلقت الجمال وغواية الرحيل عن الأوطان، كما خلقت العودة إليها حيث قلب الحبيب. خلقت كلّ شيء، كلّ شيء يا الله. كما خلقت غزّة، أليس كذلك؟ وهي، كما تعلم، مُجرَّد أرض صغيرة تجاور البحر، البحر الذي إذا كنت في سفينة يذهب بك إلى مدن الأبيض المتوسّط البعيدة، حيث من هناك كان يأتي الغزاة، بجيوش تطفئ عين الشمس، وبسيوفٍ قاطعة ووعد إلهي غامض، وغاضب، ليأتوا إليها، إلى غزّة، ويشنّوا الحملات العسكرية عليها وعلى جوارها في أرض كنعان القديمة، ليعيثوا فيها خراباً باسمك الذي تقدّس، باسمك يا ربّ جميع من خلقتهم من طير وحيوان، من أراضٍ وسماوات، وكواكب ونجوم ومجرّات، فما يعجزك شيء، تقدّس اسمك وفعلك، فباسمك نبدأ نهاراتنا ونأكل طعامنا ونشيّع موتانا.
باسمك يقتلون، كم ألفاً ستُعدّين قتلانا يا فاطمة؟ كم مرّة ستجلسين على عتبة بيتك يا عائشة لتودّعي أولادك القتلى بالزغاريد؟ فلا فرح هنا، في هذه الأرض الصغيرة التي خلقتها يا ربّ، مثل بقية الناس، لتكون زغاريد النساء في أعراس أولادهن وبناتهن. لا أفراح هنا، بل مآتم يا بلادي، يا بلاد قوافل القتلى التي ما انقطع سيرها ومسيرها عبر التاريخ إلى المقابر.
هنا والآن يا الله، يا رب جميع الخلق، منذ آدم إلى إيتمار بن غفير، منذ قابيل إلى بنيامين، ونحن نُذبح، نحن الذبيحة الوحيدة التي يُسلَخ جلدها وتُقطّع أطرافها، يا الله، من بين أمم الأرض كلّها، نحن الذبيحة – الطفلة، نحن الطفل – الرسول.
ليتنا متنا في المهد فلا نرى أعضاءنا تُجمّع في أكياس، وجثامين أولادنا وهي تبحث عن عناصرها الأولى، كأن تكون اليد ملتحمة بالكَتِف لا بالقدم يا الله، وهي تُدفن في التراب الذي خلقته أنت أيضاً كما خلقت بني إسرائيل ورعيّتهم وهم العُصاة، الذين بك جدّفوا وما آمنوا، بل طلبوا وألحفوا في الطلب بأن تكون هذه الأرض كلّها لهم، والله نفسه لهم، والدنيا والآخرة، والولادة والقيامة.
هنا والآن، كما في الأمس، أنتِ لست بخير، يا غزّة، جباليا ليست بخير، رفح، بيت لاهيا، بيت حانون، حي الزيتون، حي التفاح، الرّمال، الدرج، ليست بخير، وثمّة مريماتٌ بلا عدد يبكين الطفل – الرسول، الذي تعدّد وتكاثر، فإذا هو كلّ أطفالك يا غزّة. وليس ثمّة من يرفعهم إليه، من يحضن أعضاءهم المقطّعة، وعيونهم المطفأة قبل الأوان.
إلى من يغنين يا فاطمة، وأنت تقتعدين عند عتبة الدار؟ إلى من تبعثين الرسائل؟… إلى الله الذي خلق هدهد سليمان والصافنات الجياد، لعلّه يرانا. إلى متى ترقصين في الأتراح؟ تزغردين في الجنازات يا فاطمة؟… إلى أن تكون مشيئته، فيرفع عنا يد الحديد التي كان داود بها يبطش.
تمطر في غزّة الآن فيموتُ أطفالنا من البرد، وتلك ليست استعارة، بل حقيقة عارية تماماً، مثل قابيل وهو يشجّ رأس أخيه. تمطر الآن وأمس وقبل الأمس موتاً في جباليا، في دير البلح، في النصيرات، فيموتون من البرد، ويبكون أطفالهم وجثثهم الباردة التي يصحون فيجدونها قد نشفت وتحطبّت وأصبحت زرقاء، بعيونٍ مفتوحةٍ على وحشة العالم، على خذلان الكون، تنظر إليك يا الله. يا من خلقتنا كما خلقت شولميت وسارة، كما خلقت يوسف وموسى، كما خلقت عصاه ومنحتها له فشقّ بها البحر كيلا يموت بنو إسرائيل. ألكي نموت نحن ونُقتَل؟ نباد ونقطّع؟ ونموت ونُهان في بلاد الناس؟
إياك نعبد وإياك نستعين، ربّنا وإلهنا.
المصدر: العربي الجديد