محمود الريماوي
بينما توالت وقائع حرب الإبادة ضدّ قطاع غزّة في مدى العام الماضي، واكبت هذه الحرب مفاوضات “ماراثونية” للإفراج عن أسرى فلسطينيين وإسرائيليين، وقد أبدت حكومة بنيامين نتنياهو تصلّباً دائماً ومراوغةً مستمرّةً، ما أدّى إلى إفشال تلك المفاوضات المرّة تلو المرّة، وقد أسهم وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن في إفشال المفاوضات، وإدامة الحرب عبر 11 جولة على المنطقة، واظب في أثنائها على إعلان أن حركة حماس تعيق التوصّل إلى حلّ، فيما ظلّ مسؤولون سياسيون وعسكريون إسرائيليون يردّدون أن نتنياهو هو من يضع العقبات أمام التوصّل إلى حلّ، إذ يرى في استمرار الحرب مصلحةً سياسيةً وشخصيةً له، وهو ما ردّدته عائلات أسرى إسرائيليين واظبت على تنظيم مسيرات احتجاجية، من دون أن يعبأ نتنياهو بهذه الأصوات، مستنداً إلى أغلبيةٍ يتمتّع بها في الكنيست، تشكّل درعاً يحميه من السقوط. وقد استهلّ بدء العام الجديد بوضع اشتراطات ومطالب إضافية على مسودّة اتفاق شبه نهائي، ما عرقل مُجدّداً التوصّل إلى اتفاق، وهو ما أوضحته مصادر مصرية رسمية (1/1/2025). وقد يعني إفشال إبرام اتفاق استمرار الجمود الىسياسي، غير أنه في واقع الحال يعني ما هو أسوأ، وهو مواصلة جيش الاحتلال في هذه الحالة حرب الإبادة ضدّ العائلات والبيوت والخيام والمستشفيات وسائر مظاهرالحياة والطبيعة والعمران، ووسط حالة من انحسار الاهتمام الإقليمي والدولي بما يجري، جرّاء التركيز على المُستجدّات في الإقليم، مثل الانتهاكات الاسرائيلية لوقف اطلاق النار في لبنان، ومتابعة التطوّرات في سورية بعد هروب بشّار الأسد وانهيار نظامه.
يجب على الجانب الفلسطيني التفاهم حول توسيع فريق التفاوض ومنحه صفةً وطنيةً تمثيليةً شبه شاملة لا فصائلية
من الجلي أن الحكومة الأشد تطرّفاً في تلّ أبيب ليست في وارد التوصّل إلى وقف إطلاق نار في غزّة، ليس لأن نتنياهو يخضع لتهديدات وزيرَين متطرّفين في حكومته، بل لأن نتنياهو وبقية أعضاء حكومته يتطابقون في رؤيتهم إلى الصراع مع الوزيرين إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وهي رؤية عنصرية استئصالية نحو الطرف الآخر صاحب الأرض. والفرق أن نتنياهو أكثر قدرةً من وزيرَيه على التلاعب بالوقائع والكلمات وإخفاء وجهه الحقيقي، فيما ينتظر الرجل وصول “صديقه” دونالد ترامب إلى البيت الأبيض في 20 يناير/ كانون الثاني الجاري، كي يأذن له بمضاعفة الغارات على القطاع وتشديدها، مع توقّعاته بأن واشنطن قد تشارك بصورة مباشرة وجزئية بالحرب إذا لم تفرج حركة حماس عن أسرى أميركيين (خمسة أسرى حسب تقديرات واشنطن). وفي سبتمبر/ أيلول الماضي (2024)، ومع إعلان مقتل أحد الأسرى الأميركيين، ثارت توقّعات بأن إدارة الرئيس جو بايدن قد تعمد إلى إجراء صفقة منفردة مع “حماس” بشأن هؤلاء، غير أن شيئاً من ذلك لم يحدث، وليس من المتوقّع حدوثه من إدارة ترامب.
السؤال الكبير الذي يهجس به أبناء غزّة (تدلّ على ذلك عشرات الفيديوهات التي ينتجها أبناء القطاع يومياً): متى تتوقّف الحرب ضدّهم؟ وذلك في ظلّ قناعتهم بأن قادة العالم العربي والإسلامي قادرون لو شاءوا على وقف الحرب، فلماذا يستنكفون عن التقدّم خطوة واحدة إلى الأمام في طريق الضغط السياسي والاقتصادي على المعتدي، ولماذا يتركونهم وحيدين في جوف المحرقة؟
حصيلة ما تقدّم أن فرص إغلاق أبواب الجحيم تتضاءل بدل أن تزداد، وأن الوضع مرشّح لأن يسوء أكثر مع وصول ترامب إلى البيت الأبيض، ما يتطلّب الوقوف بجدّية لمراجعة مسار التفاوض، فليس سرّاً أن نتنياهو هو العائق الأول أمام تقدّم المفاوضات، إلا أنه ليس العائق الوحيد، إذ مالأته إدارة بايدن وتواطأت معه، وعلى قاعدة أن القضاء على حركة حماس (تصنّفها واشنطن حركةً إرهابية) يمثّل هدفاً مشتركاً لواشنطن وتلّ أبيب، حتى لو أدّى ذلك إلى خسائر وأضرار “جانبية”، مثل مقتل عشرات آلاف المدنيين وتسوية أربع مدن بالأرض.
الحكومة الأشد تطرّفاً في تلّ أبيب ليست في وارد التوصّل إلى وقف إطلاق نار في غزّة
وللأسف!، الوضع بعناصره ومكوّناته الحالية مهيأ لمزيد من فصول الكارثة بحقّ الكتلة البشرية في القطاع، وهو يتطلّب حُكماً ووجوباً من الجانب الفلسطيني التماس مداخل جديدة للتفاوض، وفي مقدّمها توسيع فريق المفاوضين، بحيث يصبح التفاوض مع طرف يكتسب صفة تمثيلية واسعة، لا أن يقتصر التفاوض على فريق “حماس”. وسواء أعجبنا الأمر أم رفضناه، فإن التحفّظات الإقليمية (ولنقرأها العربية) على اللون السياسي والأيديولوجي للحركة تُسهم من طرفٍ خفيٍّ في إضعاف وزن الحركة التفاوضي. وإذ يُصحّح الأداء البطولي والإعجاز العسكري لعمليات المقاومة اليومية من خلل هذه المعادلة، إلا أن الثقب الأسود يبقى على حاله، فالاحتلال ينتقم لقتل عدد من جنوده باستهداف مئات النازحين، بل إن هذا الاستهداف الوحشي قائم بلا انقطاع، حتى لو مضت أيام مثلاً بغير أن يخسر العدو فيها ضبّاطاً وجنوداً منه، ما يجعل شلّ آلة الحرب الاسرائيلية ضرورةً وجوديةً، وذلك بعد انتقال القوى الصهيونية الأشدّ تطرّفاً من السعي إلى تصفية قضية فلسطين، إلى التصفية المادية للكتلة البشرية الفلسطينية، ووسط تجاهل دولي حتى من طرف من هم أصدقاء دوليون.
تقع على الجانب الفلسطيني مهمّة مراجعة الموقف والإقرار بحجم المخاطر الذي فاق كلّ حدّ، والتلاقي مجدّداً بين مكوّناته، والتفاهم حول توسيع فريق التفاوض ومنحه صفةً وطنيةً تمثيليةً شبه شاملة لا فصائلية، حتى ولو بدا هذا الأمر متأخّراً (في الجانب الإسرائيلي فإن المستوى السياسي مُمثّلاً بجهاز المخابرات، هو من يقود التفاوض وليس الجيش)، والتفاهم كذلك وبرعاية عربية حول محدّدات مشتركة للتفاوض نفسه، بما في ذلك تقديم تنازلات متبادلة بين “حماس” والسلطة، بشأن لجنة الإسناد المجتمعي، ومن أجل الاستعداد لمرحلة ترامب الوشيكة، ولاجتذاب دعم عربي أوسع وأكثر نجاعةً لفريق التفاوض، والسعي إلى تبنٍّ عربي واضح لفريق التفاوض الفلسطيني، وليس هناك فيما هو منظور من فرصٍ لاختراق الجدار، سوى التفكير بشجاعة ومسؤولية وإنكار الذات الفصائلية، وذلك لحرمان العدو من مواصلة حرب الاستئصال، ولتمتيع أبناء غزّة بحقّ الحياة المقدّس.
المصدر: العربي الجديد