اياد الدليمي
في ظلّ شدّ وجذب وأخذ وردّ، بخصوص ما ينتظر العراق في المرحلة المقبلة، وما أشيع عن ضغوط أميركية وغير أميركية على بغداد، لإنهاء وجود كلّ سلاح خلا سلاح الدولة؛ جاءت زيارة رئيس الحكومة محمد شيّاع السوداني طهران، الأربعاء الماضي، لترفع من وتيرة التوقّعات حيال ما يمكن أن تحقّقه، خاصّة في ظلّ موقف متصلّب أبدته قيادات المليشيات المسلّحة والحشد الشعبي، حيال ما تردّد عن حلّ تلك المليشيات وإعادة دمج الحشد الشعبي (أو جزء منه) في المنظومة العسكرية والأمنية.
كانت الزيارة على ما يبدو مقرّرة بداية شهر يناير/ كانون الثاني الجاري، إلا أنها تأجّلت من دون معرفة الأسباب، أعقب هذا التأجيل وصول قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، إلى بغداد، حيث التقى قادة فصائل مسلّحة ومن الإطار التنسيقي (الشيعي)، ثمّ لقاء جمعه مع السوداني، خرجت بعده تسريبات أكّدت أن القائد الإيراني أبلغ الجميع، حكومةً وقادةَ فصائلٍ، أن قرار حلّ الفصائل عراقي، ولن تتدخّل فيه طهران. تسريبات تناقلتها وسائل الإعلام العراقية، من دون أن يخرج أيّ شيء رسمي، فزيارة قادة فيلق القدس الإيراني للعراق (منذ أيام)، كانت تحت جناح السرّية، ما خلا بعض ما يتسرّب إلى الإعلام، بقصد أو من دونه. بالتالي، لا يمكن المطالبة ببيان حيال تلك اللقاءات وما دار فيها.
عقب تلك الزيارة لقائد فيلق القدس إلى العراق جاءت زيارة السوداني طهران، وكانت محاولةً عراقيةً أخيرة من أجل موقفٍ إيراني حيال المليشيات المسلّحة، التي باتت تهدّد النظام السياسي في العراق ككل، خاصّة مع توالي التقارير الغربية التي تتحدّث بشكل صريح وواضح عن نيّة إسرائيل تنفيذ سلسلة من العمليات العسكرية ضدّ تلك الفصائل، التي سبق لها أن شاركت بعمليات “إسناد غزّة” طيلة عام كامل، وقصفت العديد من المواقع داخل دولة الكيان. في طهران ومن أجل ضمان موقف إيراني مؤيّد لتوجّه الحكومة العراقية بإيجاد حلّ لوجود السلاح خارج نطاق الدولة، وقّع السوداني ثلاث اتفاقيات وعقود مهمّة مع إيران (المعاقبة دولياً)، خلال لقاءاته الرسمية مع الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان وطاقم حكومته، قبل أن يلتقي المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، الذي زامن هذا اللقاء بنشر سلسلة منشورات عبر حسابه في منصّة أكس، أكّد فيها ضرورة دعم الحشد الشعبي في العراق، وضرورة بقاء سلاحه لردع “الأعداء”، في رسالة فهمت أن إيران المرشد غير راغبة في تفكيك منظومة عسكرية عقائدية كبيرة وضخمة، قادرة من وجهة نظر إيران أن تكون ورقةً فاصلةً ومهمةً للدفاع عن النظام في إيران، بوجه ما يراد له من إسرائيل وأميركا ترامب، القادم بقوة.
يجب أن تمضي حكومة السوداني في مواجهة السلاح الخارج عن سيطرتها، سبيلاً لتجنيب العراق مآلات قرارات ترامب التنفيذية المائة
هل فشلت مهمة السوداني؟ ولماذا أسمع الإيرانيون نظراءهم في العراق موقفَين متناقضَين، موقفا مثّله قائد فيلق القدس وموقفا آخر مثّله المرشد، ما الرسالة، وما الغاية من ذلك؟ وأين موقف إيران الحقيقي حيال ما يتعرّض له العراق من ضغوط لحصر السلاح بيد الدولة وتفكيك بنية المليشيات والفصائل المسلحة؟… يدرك جيداً من يعرف السياسة الإيرانية أنها لا تضع بيضها في سلّة واحدة، وهي قادرة دائماً على التكيّف مع المتغيّرات ولديها براغماتية تُحسد عليها، بل نادرة في الإقليم ككل، وبالتالي لم يكن هذا الموقف الإيراني المتناقض حيال هذه القضية هو الأول من نوعه، فبينما كان إعلامها يُظهِر موقفاً إيرانياً داعماً للعراق في تصدّيه للغزو الأميركي عام 2003، كانت فرق الحرس الثوري الإيراني والمليشيات العراقية في إيران تساهم بشكل فعّال وجدّي في تقديم المساعدة للقوات الغازية.
تدرك إيران جيّداً اليوم أن مصير نظامها بات على المحكّ، خسارة سورية ليست بالأمر الهين، فحتى اللحظة تشعر أن إيران غير مستوعبة ما جرى، وبعد ذلك وقبله، الخسارة الكبيرة الأخرى في هزيمة حزب الله في حربه أخيراً مع دولة الكيان، التي تكلّلت بانتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية، هو العماد جوزاف عون، القادم بشعار “لا سلاح سوى سلاح الدولة”، وما يمكن أن يجرّه من مواجهة مرتقبة مع حزب الله في حال رفض تسليم سلاحه ومواقعه للجيش اللبناني. إذاً لم يبقَ حائط صدّ قريب يستعمله النظام الإيراني سوى النفوذ الذي حقّقه في العراق طيلة أكثر من عقدَين، ويعتبر الحشد الشعبي والمليشيات الموالية لإيران رأس رمح هذا النفوذ، وسكّين يمكن أن تقطع دابر من يفكّر بتقليم أظافر إيران في العراق. ولكن هل يصمد العراق بوجه أيّ عملية عسكرية قد تنفّذها إسرائيل، التي تنتظر على أحرّ من الجمر رفض العراق التخلّص من مليشياته، وهي التي لم يمنعها من تنفيذها سوى الطلب الأميركي بتأجيل الضربة لحين استنفاد أوراق الضغط كلّها على بغداد؟ وهل تقوى بغداد على مجابهة قرار اقتصادي أميركي بفرض عقوبات على أفراد وكيانات عراقية، كما تحدّث عن ذلك موقع أويل برايس، خاصّة بعد فضيحة تصدير العراق لنفطٍ إيراني؟ وهل تقوى بغداد على تأخير الفيدرالي الأميركي تسليمها أموال النفط شهرياً مدّة أسبوعَين فقط؟… مهمّة السوداني لم تفشل، فالحكومة اليوم (ومنذ أكثر من عام) تسعى إلى تجنيب العراق مزالق ما قد يتعرّض له، وهي (برفض أو موافقة إيران) ماضية في مواجهة السلاح الخارج عن سيطرتها، قد تبدو مهمّة مستحيلة، وانتحارية، لكنّها في النهاية يجب أن تمضي بها قدماً، فلا سبيل لتجنيب العراق مآلات قرارات ترامب التنفيذية المائة، التي سيوقّعها في يوم دخوله البيت الأبيض، إلا بقرارات كبيرة ومقنعة وعاجلة أيضاً، فشعار المرحلة الأميركي للنظام السياسي في العراق “تتغيّرون أو تُغيّرون”.
المصدر: العربي الجديد