غازي دحمان
تدخل الأفعال الإسرائيلية العدائية تجاه سورية في إطار ما أطلقت عليها حكومة بنيامين نتنياهو إعادة تشكيل الشرق الأوسط، وصناعته من جديد، وفق معايير ومقاسات إسرائيلية، عبر تحويله إلى بيئةٍ منزوعة العداء لإسرائيل، تمنحها الأمان والسيطرة والتحكّم بمخرجاتها وتفاعلاتها.
تدرك إسرائيل أن حزب الله وحركة حماس قد لا يطول بهما المقام لهضم الانكسار الحاصل، فما دام أن بيئاتهما لا تزال مؤيدة لهما، وما دامت هذه البيئات ترى أن إسرائيل عدو وجودي، فإنها ستقّيم الانكسار الحالي أنه جولة في صراع مديد، وحتى ولو بعد سنوات طويلة ستعاود الكرة، طالما أن إسرائيل لا تريد ولا ترغب في التوصل إلى حلول سياسية تنهي معها مبرّرات الصراع ومحرّكاته، ومن ثم فإن إدّعاء تغيير الشرق الأوسط وتشكيل بديل عنه لن تكون بوابته هزيمة “حماس” وحزب الله، هذه متغيرات مؤقتة ومتحرّكة لا تصلح للبناء عليها صرحا بحجم شرق أوسط جديد.
قد تكون سورية المفتاح. يكون هنا التغيير على مستوى البنية الجغرافية لدولةٍ مركزية في الإقليم، تشبه يوغسلافيا في التسعينيات من القرن الماضي؛ إذ تبدو من الناحية النظرية غرفاً بعدة منازل، لديها قابلية للانفصال عن الجسم الأساسي، حيث لدى غرفة أسباب الانعزال والاستقلال ومبرّراتهما، وتملك نتيجة سنوات الفوضى الأدوات اللازمة لتثبيت هذا الانفصال، ولا تحتاج سوى إطلاق دينامية معينة، تعتقد إسرائيل أنها توفرها لها عبر سياساتها العدائية تجاه المركز الدمشقي.
تعمل إسرائيل على تهيئة البيئة الإستراتيجية المناسبة لإطلاق ديناميات التفكيك وتزخيمها للتفاعل في المسارات السورية وتنتج الواقع المنشود لإسرائيل
كل ما تقوم به إسرائيل تجاه سورية في الوقت الراهن، هو التأسيس بالفعل لمرحلة تفكيك سورية، عبر تجهيز البيئة الإستراتيجية المناسبة لذلك، ما يعني أن تصرّفات إسرائيل السابقة، والتي بدأتها بتدمير الأسلحة السورية، احتلال حيز من الأراضي السورية، كانت جزءاً من عمل مخطّط وممنهج ومدروس بعناية، الهدف منه تهيئة البيئة الإستراتيجية المناسبة لإطلاق ديناميات التفكيك وتزخيمها للتفاعل في المسارات السورية وتنتج الواقع المنشود لإسرائيل، والذي لم يخف قادة إسرائيل تصورهم لمشهديته المتشكّلة من خمسة كانتونات منفصلة ومتنازعة وتحتاج لإسرائيل، الجار القوي، لضبط صراعاتها وتحديد أشكال وأنماط تفاعلاتها.
في اعتقاد ساسة إسرائيل، أنهم أمام فرصة نادرة لتحقيق أهدافهم، والإعلان عنها بكل شفافية ووضوح، فالسلطة الحاكمة لديها سجل دولي في التطرف، ومصنفة لدى الكثير من الفاعلين الدوليين الكبار بوصفها تنظيما إرهابيا، وعلى ضوء ذلك، يمكن لإسرائيل الذهاب بعيدا في تصرفاتها العدائية تجاه سورية، انطلاقا من مبدأ الحماية للنفس، دون الاضطرار لتبرير أفعالها، كما أن هذه السلطة السورية الجديدة غير مرغوب بها من قبل العديد من الدول العربية، ومن ثم فإنها لن تجد من يدافع عنها، ربما باستثناء تركيا المُتهمة أصلا بالنزوع للسيطرة على المنطقة، أو إعادة التاريخ للزمن العثماني، الذي يثير ذكريات غير حسنة لدى العديد من الدول الإقليمية والأوروبية.
اللافت أن إسرائيل، ورغم كل حساباتها وما قامت به من أعمال تحوطية، واعتقادها أنها وصلت إلى مرحلة نهاية التاريخ في الشرق الأوسط، تجد نفسها، وبعد سيطرة القوى الإسلامية في دمشق، أمام تطور لم يدخل في حساباتها، ولم تلحظه عقولها الإستراتيجية، فالتغيير الذي حصل في دمشق قد يكون المدماك الأول في سلسلة تحوّلات قد تغير البيئة الإستراتيجية، إن لم يكن بعد سنة أو سنتين؛ فبعد عقد أو عقدين، كما عبر أحد مسؤولي إسرائيل توضيحا لسبب عدائهم وعدم ثقتهم في السلطة الجديدة في دمشق.
الرهان بات معقودا على وعي السوريين وقدرتهم على إفشال اللعبة الإسرائيلية الخطيرة، وعلى وعي الأنظمة العربية
فانتصار الثورة، أو لنقل، بالمفهوم الإسرائيلي، الإسلاميين ووصولهم إلى السلطة ونجاحهم في إدارة السياسة والإقتصاد والمجتمع، وفق الخطط التي يتم الإعلان عنها للوفود الزائرة لدمشق، والتي أغاظت إسرائيل كثيرا لدرجة أنها وصفت الغرب الذي يوفد مبعوثيه إلى دمشق بالعمى، سيشكل دينامية لإطلاق ثورات تحرّر عديدة في العالم العربي، وسيكشف عن حقيقة وجود بدائل وممكنات للأنظمة التي تعايشت معها إسرائيل طويلا وأخضعتها وحوّلتها إلى أداة لقمع شعوبها ومنعهم حتى من مجرد التفكير في الوقوف في مواجهة التجبر الإسرائيلي، ما يوسّع هوامش الخيارات أمام هذه الشعوب، ويزيد من احتمالات تصدّع جدران الحماية الإسرائيلية، حينما تتحوّل كل تخوم الأراضي المحتلة إلى منتجة لطوفانات عديدة.
من المؤكد أن إسرائيل باتت تدرك المخاطر التي بدأت تحوم حولها، وهي تعرف أن تدمير الأسلحة السورية ليس منجزا كافيا للركون إلى الاطمئنان، لأن من سيحاربونها في المستقبل، لا بد أنهم درسوا جيداً حروب إسرائيل في 2023 و2024، وبالتالي سيكون من الجنون لو كرروا نفس الفعل في مرحلة مقبلة، أي مواجهة إسرائيل بهذا النمط من الأدوات والخطط والتكتيكات، هذه مرحلة انتهت وأخذت معها عُدّتها.
ربما هذا ما يفسّر سبب الهلوسة الإسرائيلية بالاستعجال على تفكيك سورية، وإعادة إنتاج تجربة البلقان في أوروبا، من خلال إعادة صوغ الجغرافية وصناعة الفاعلين من وجاهات ورجال دين وعشائر، وطوائف وقوميات؛ فسورية هي التطبيق الحرفي لولادة الشرق الأوسط الجديد، ومفتاح الحل السحري لإسرائيل، وتفكّكها سيطلق دينامية تفكيك رهيبة لن تنجو منها جميع دول المنطقة، والرهان بات معقودا على وعي السوريين وقدرتهم على إفشال اللعبة الإسرائيلية الخطيرة، وعلى وعي الأنظمة العربية وتحييد حساباتها السلطوية لحماية مستقبل دولها وأمن مجتمعاتها.
المصدر: العربي الجديد