كمال عبد اللطيف
منذ سنوات وأنا أبحث عن العرب بالمفرد، الصوت الواحد والموقف الواحد، ومشروع النهوض العربي. أراهم اليوم أمامي، مجتمعات وأنظمة سياسية بالجمع، أسمع أصواتهم، أُعايِن جوانب من الصراع الدائر في ما بينهم، كما أعاين، منذ سنوات، أنماطاً من الحراك الاجتماعي تجري داخل بلدانهم، وقد أنتجت انفجاراتٍ بلا أفق ولا مستقبل. وعندما يحصل أن يتم بين قادتهم لقاء، يُصْدِرون بيانات لا علاقة لها لا بأحوالهم، ولا بنمط التطلعات السائدة في مجتمعاتهم، ولا علاقة لها أيضاً بأشكال الصراع الناشئة في محيطهم الإقليمي وفي العالم، بيانات يشبه حضورها غيابها. وأواصل البحث عن عرب أرى اليوم أن مساحة تطبيعهم مع الصهيونية قد اتسعت، كما اتسعت تبعيّتهم للغرب، وأصبح القائمون على تدبير أحوالهم يكتفون، في اللقاءات التي تجري بينهم، ببيانات تستعيد مفردات وصيغ وتوافقات لا صلة بينها وبين مختلف مظاهر البؤس والخراب التي تملأ مجتمعاتهم. العرب اليوم غرباء، ولا علاقة لهم لا بذواتهم ولا بالعالم من حولهم..
توقف كثيرون من أصحاب الرأي في المحيط الثقافي والإعلامي عن سؤال البحث عن العرب، وأصبحوا يعتقدون بأنه لا يوجد اليوم أي دليل على وجودهم. انتبهوا لكل ما حصل في البلدان العربية في العقدين الأخيرين، وأدركوا أنهم اليوم غائبون عن كل ما يجري أمامهم، أو بالقرب منهم. وساهم مشروع الإبادة الذي يُمارسه الصهاينة، منذ أكثر من سنة، على الشعب الفلسطيني في غزّة، وفي باقي الأراضي الفلسطينية المحتلة، كما ساهم غزو الصهاينة جنوب لبنان والجنوب السوري، واختراقهم المكشوف أغلب المجتمعات العربية، في مزيد من التأكد من غيابهم. وقد اختار كثيرون من أصدقائي نفض اليد عن العرب بالمفرد، وعن العروبة كأفق سياسي وخيار تاريخي. أصبح الجميع مقتنعين بأنه لم يعد للعرب اليوم وجود.. فقد انحلوا، وفي أبسط الأحوال تحوّلوا إلى أشباح لا تتحرّك، وإن تحرّكت فلا صوت ولا أثر لها.. وقد يكون قد أصابهم مكروهٌ ما، ولا أحد يعرف حدود الآثار التي يمكن أن تترتّب عنه في الحاضر العربي.
حدود الفاصل بين التدخل الإقليمي والدولي وحدود الفعل الذاتي في ما يقع اليوم في مجتمعاتنا وعلى أرضنا من المحيط إلى الخليج، يكاد لا يُرَى
لم تنجح القمة العربية في 16 مايو/ أيار 2024 في المنامة، في القيام بعمل يساهم في إبراز خطورة ما يقع اليوم من إبادة فعلية للشعب الفلسطيني. ولم تنجح القمّة الإسلامية في الرياض (11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2024)، في إعلان موقف من المحرقة المتواصلة منذ أكثر من سنة فوق أرض فلسطين. يحصل هذا في وقتٍ تنتقل فيه إسرائيل من تدمير غزّة إلى غزو سورية بعد غزوها الجنوب اللبناني.. ويكتفي العرب بمشاهدة ما يجري، مُعَايَنَة الحرائق وصور الدّمار والموت، صور الحراك الإقليمي والدولي في المشرق العربي، دون أن يحركوا ساكناً. غزة تحترق، جنوب لبنان يُدمَّر، سورية في عين العاصفة.. يبدأ الاستعداد لنقل مشروع “صفقة القرن” و”الشرق الأوسط الجديد” إلى طور آخر في سلم التدبير العسكري والسياسي، أمام أعين العالم أجمع، ولا موقف عربياً اليوم في المشهد السياسي..
يسألني أحد الأصدقاء عن أحوال اليمن والعراق، ثم يتابع متسائلاً عن أحوال سورية وليبيا، ولا يتوقف عن السؤال، فيتابع مستفسراً عن أحوال مصر والسودان وتونس، وأحوال المغرب والجزائر، فلا أجيبه.. بل أسأله لماذا تكاثر عدد المطبّعين زمن المحرقة والعدوان الصهيوني الغربي على فلسطين؟ ولماذا انتقل العدوان اليوم إلى لبنان؟ ولماذا تحولت سورية منذ سنوات إلى أرض للغزاة، وقد اصطفوا جميعاً لتدبير مآلها بعد تدمير غزّة ومحاصرة لبنان؟ ووسط تعقد أسئلته وأسئلتي، وعجزي عن إيجاد الأجوبة المناسبة لأسئلته، وجدتُ نفسي أمام وضع عربي بملامح أخرى، اختفت منه بغداد ودمشق والقاهرة والقدس وبيروت.. فماذا تبقّى من الحواضر العربية؟ ماذا تبقّى من الآمال العربية في استكمال التحرّر والتحرير؟ وهل هناك إمكانية لعودة الروح إلى الأرض العربية؟ وهل بإمكان ما تبقّى من الأنظمة السياسية العربية أن يفكر في الزلزال السوري؟
نقف بلا أفق محدَّد في النظر والعمل، نواجه ذاتنا المعتلة تاريخياً بفعل ما صنعنا في حاضرنا
يقدّم واقع الحال في أغلب البلدان العربية أكثر من دليل على فشل مشاريع الإصلاح والتغيير، مشاريع الوحدة والتضامن، إنه يكشف فشلنا التاريخي في تدبير التدهور المستمر في الحالة العربية، يكشف عجزنا عن مواجهة القِوَى الإقليمية والدولية، عجزنا عن مواجهة الصهيونية والغرب الإمبريالي، وقبل ذلك وبعده عجزنا عن مواجهة ذاتنا وتأخّرنا التاريخي، فقد تَخَطَّى الصراع المتواصل اليوم على أرض فلسطين، والصراع المتواصل في العراق ولبنان واليمن وسورية وفي الخليج العربي، تَخَطَّى سياقات ما يُعْرَف بالربيع العربي وتَبِعَاتِه، وأصبح يرسم اليوم مواقفه في إطار أكبر، يتعلق بإعادة تأسيس موازين القِوَى الإقليمية والدولية خارج معادلات الإصلاح والثورة، التحديث والدمقرطة، ومواجهة الاستبداد والفساد. ونتصوَّر اليوم أن حدود الفاصل بين التدخل الإقليمي والدولي وحدود الفعل الذاتي في ما يقع اليوم في مجتمعاتنا وعلى أرضنا من المحيط إلى الخليج، يكاد لا يُرَى، بحكم أن الأحداث والوقائع التي نواجه تتسم باختلاط كبير. إنها تتعين بجملة من العوامل الجديدة والمركّبة، كما ترتبط بسياقات التاريخ في مجراه العام، وتتصل بالاستراتيجيات العالمية الجديدة، التي تحسب حسابات الراهن والمستقبل، ومن دون إغفال مقتضيات المصالح مُمَثَّلَةً في النفط، ومُجَسَّدَة في إسرائيل، وحسابات إقليمية أخرى.. لكن ألا تعتبر الحالة المختلطة، في لحظاتٍ مماثِلة لأحوالنا ظاهرة عامة؟ ثم ألا تسمح هذه الحالة بالتفكير في كيفيات بلورة الحلول المناسبة لأوضاع جديدة؟
نقف اليوم، ونحن نواجه عجزنا وغطرسة المتربّصين بأرضنا، أمام امتحان عسير، نقف بلا أفق محدَّد في النظر والعمل، نواجه ذاتنا المعتلة تاريخياً، بفعل ما صنعنا في حاضرنا، وبفعل تحولات كبرى تجري في العالم. كما نواجه قِوَى إقليمية ودولية بيننا وبينها حسابات تاريخية وجغرافية لا حصر لها، قِوَى تمارس أدوارها الجديدة، لتساهم في ترتيب جوانب من المبادئ الكبرى لنظام دولي في طور التأسيس. وفي قلب المتاهات المرتبطة بمختلف ما ذكرنا، تحضر مقتضيات النهضة والتحديث في مجتمعاتنا، شروط ومستلزمات الدمقرطة والتنوير والوحدة والتقدّم، حيث لا يمكن تشخيص واستيعاب مظاهر مآزقنا في الراهن العربي من دون بناء ذاتنا مجدّداً، بناء أفق عروبي جديد، في ضوء أسس الأزمنة الحديثة ومقدّماتها في السياسة والتاريخ. فمن يُبادر إلى إطلاق مشروع عروبة المستقبل اليوم؟