حسين عبد العزيز
مقولتا “الانتصار” و”الهزيمة” غير متطابقتين تماماً مع الواقع، ولا هما تعبيرٌ أو تجسيدٌ عن وعي زائف منافٍ تماماً للواقع. بهذا المعنى، تندرجان ضمن نطاق الأيديولوجيا من جهة، بقدر اندراجهما ضمن الإطار المطابق جزئياً للواقع من جهة أخرى.
مناسبة هذه المقدمة انتهاء الحرب الغاشمة على أهلنا في غزّة بعدما دامت نحو عام وثلاثة أشهر، وما سيخرُج على إثرها من مراجعاتٍ استراتيجيةٍ في الساحة الفلسطينية والعربية، بشأن جدوى عملية طوفان الأقصى، وما إذا كانت انتصاراً لفلسطين أو هزيمة لها.
يكاد يكون من المستحيل تبنّي إحدى المقولتين وحدها دون الأخرى بسبب اختلاف المواقف بين الفلسطينيين أنفسهم، فموقف الذي تعرّض للقتل غير موقف الشخص البعيد عنها، وبالتالي، تتحدّد مقولتا “الانتصار” و”الهزيمة” تبعاً للشخص.
مثلاً، قد يقول بعضهم في غزّة إن الثمن الذي دُفع في القطاع كان كبيراً جداً، يفوق أية مكاسب استراتيجية للفلسطينيين وقضيتهم، فيما يرى آخرون أن هذا الثمن يستحق دفعه، لأن “7 أكتوبر” حرّك القضية الفلسطينية، وأعادها إلى صدارة القضايا العالمية.
بلغة السياسة العقلانية يمكن إطلاق حكم وجودي على ما حدث بناءً على الأسئلة الرئيسية المطروحة والإجابة عنها من إسرائيل ذاتها، باعتبار الأخيرة أعلنت حرباً شاملة على قطاع غزّة لتحقيق أهداف محدّدة، وأنها لن توقف الحرب قبل تحقيقها.
إذا كان المقصود بـ “الانتصار” الإسرائيلي تدمير قطاع غزّة بكل مرافقه وبناه التحتية، فإن إسرائيل بهذا المعنى انتصرت، وإذا كان المقصود به قتل أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، فإن إسرائيل بهذا المعنى قد انتصرت. وإذا كان المقصود تدمير قدرات المقاومة العسكرية في غزّة، ومنع بقاء القطاع منصة للتهديد العسكري، فإن إسرائيل بهذا المعنى انتصرت أيضاً. أما إذا كان المقصود بـ “الانتصار” الإسرائيلي منع تحويل قطاع غزّة إلى مكان غير قابل للحياة، فإن إسرائيل هُزمت، إذ بقي الفلسطينيون ثابتين على أرضهم، على الرغم من عدد الشهداء الكبير والضغوط الإقليمية الكثيفة من أجل دفعهم إلى الرحيل. وإذا كان المقصود بـ “الانتصار” فرض الشروط الإسرائيلية على المقاومة الفلسطينية، فإن إسرائيل فشلت في تحقيق هذا، فكل عمليات الإبادة الجماعية التي نفذتها، وتدميرها للقطاع، فشلت حكومة بنيامين نتنياهو في فرض شروطها.
ستبقى أحداث غزّة مفصلاً هاماً لصالح القضية الفلسطينية، مهما كان الثمن باهظاً
على المستوى التكتيك التفاوضي: أولاً، اضطرّت إسرائيل إلى التفاوض مع حركة “حماس” عبر الوسيطين القطري ـ المصري، وبالتالي، نسيان فكرة القضاء تماماً على الحركة. وعليه، فشلت إسرائيل في تحييد المقاومة من قطاع غزّة. ثانياً، قبول إسرائيل شرط المقاومة المتمثل بأن يكون الاتفاق نهاية للحرب، بخلاف ما كان نتنياهو يشدد عليه من إجراء فصل بين الحرب وأي اتفاق يُبرم. وقد نص أحد بنود الاتفاق المُعلن على وقف إطلاق النار ستة أسابيع. ثالثاً، قبول إسرائيل الانسحاب من القطاع، بعد تصريحات عديدة لمسؤولين إسرائيليين إن إسرائيل باقية في القطاع إلى أجل غير مسمّى، وقد نصّ الاتفاق على انسحاب تدريجي للقوات الإسرائيلية من وسط غزّة لتتمركز على حدود القطاع مع عودة النازحين الفلسطينيين إلى شمال القطاع. رابعاً، قبول إسرائيل بشروط المقاومة حيال عملية تبادل الأسرى: إطلاق سراح ألف أسير فلسطيني ممن اعتُقلوا بعد 7 أكتوبر (2023)، بينهم 250 أسيراً من ذوي الأحكام المؤبدة، إضافة إلى جميع النساء والأطفال المعتقلين، والإفراج عن جميع الأسرى الذين أعيد اعتقالهم بعد صفقة شاليط، وإفراج إسرائيل عن 30 معتقلاً فلسطينياً مقابل كل مدني إسرائيلي، و50 معتقلاً مقابل كل جندية إسرائيلية.
على المستوى الاستراتيجي: أولاً، أدت عملية طوفان الأقصى ورد الفعل الإجرامي للاحتلال الإسرائيلي عليها إلى توقف إطار التطبيع العربي، وجعل أي عملية من هذا النوع لاحقاً قد تشكل إحراجاً للدول أمام شعوبها بعد الذي حصل في غزّة. ثانياً، عودة القضية الفلسطينية إلى صدارة الأجندة الدولية بعد سنوات من ثبات سياسي. ثالثاً، التأييد الشعبي العالمي، خصوصاً في البلدان الغربية، للقضية الفلسطينية والعداء لإسرائيل، وهو تطوّر له أهمية كبرى، قد لا نحصد نتائجه في الأمد القريب، ولكنه شكل انعطافة سياسية وأخلاقية هامة. رابعاً، نشوء فرصة تاريخية لتوافق فلسطيني ـ فلسطيني لإنشاء مشروع وطني جامع لمواجهة الاحتلال.
في الخلاصة، حقق الاحتلال الإسرائيلي بعض الانتصارات من وجهة نظره، لكنه فشل فشلاً ذريعاً في تحقيق أهداف أخرى ذات أهمية كبرى. وينطبق الأمر أيضاً على المقاومة الفلسطينية، فصحيح أنها حققت مكاسب، إلا أنها تعرّضت لخسارات كبرى في المقابل. … لكن بالمعنى التاريخي للصراع، ستبقى أحداث غزّة مفصلاً هاماً لصالح القضية الفلسطينية، مهما كان الثمن باهظاً.
المصدر: العربي الجديد