أحمد الجندي
المقارنة بين ما أصاب الفلسطينيين في غزّة وما أصاب الإسرائيليين من جرّاء الحرب ظالمة؛ إذ لا يتناسب حجم التضحيات المدفوعة في الناحيتين. لكن بينما يدفع الفلسطينيون هذه الأثمان الباهظة في طريق التحرير، وهم في ذلك ليسوا استثناء بين الشعوب الراغبة في التحرّر، يدفع الإسرائيليون أثماناً تتراكم حتى ينتهي الاحتلال. ومن المهم هنا التأكيد أن التضحيات التي قدّمها الفلسطينيون لن تضيع سدى، فالسنوات القريبة المقبلة ستكشف عن خسائر إسرائيل الحقيقية. لا نقصد هنا الأرقام فحسب، بل المآلات الاجتماعية والنفسية والسياسية، وربما الاقتصادية على الكيان الصهيوني ومشروعه.
ومن الواضح أن أداء المقاومة طوال فترة الحرب تسبّب في أزمات نفسية عميقة عاشها المجتمع الصهيوني، بل وأجيال الشباب الصغار الذين يمثلون مستقبل دولة الاحتلال، إلى درجة أن عام 2024، حسب تقرير نشره موقع القناة 14 الإسرائيلية منتصف ديسمبر/ كانون الأول الماضي، كان الأصعب على الإطلاق في تاريخ صغار الشباب في إسرائيل نتيجة ما أفرزته الحرب من أزمات كبرى ومصيرية دفعت 26% من تلاميذ المدارس إلى تعاطي المخدّرات للهروب من الأزمات والمشكلات التي تعرّضت لها إسرائيل.
وقد حظيت الحرب على غزة في بدايتها بتأييد الشريحة الأوسع من الإسرائيليين، ثم انحسر هذا التأييد بعد 15 شهرا من القتال؛ وكانت أقصى التوقعات الإسرائيلية (84% من الإسرائيليين) تتحدّث عن استمرارها شهرين إلى أربعة أشهر أو أكثر بقليل، طبقاً لاستطلاع المعهد الإسرائيلي للديمقراطية في يناير/ كانون الثاني 2024. غير أن حالة الإرهاق التي عانى منها الجيش في غزّة، وعمليات الاستنزاف التي نفّذتها المقاومة، والتي تصاعدت في الأيام الأخيرة قبل الوصول إلى الاتفاق، جعلت الإسرائيليين يرغبون في إنهاء الحرب الدائرة أكثر من أي وقت مضى، وصارت الغالبية تدرك أنها حربٌ لا طائل من استمرارها؛ بعد فشل الجيش في القضاء على المقاومة، التي جدّدت نفسها باستمرار، بشهادة وزير الخارجية الأميركي، بلينكن، وبعدما فشل الجيش أيضاً في فرض خطته لتهجير سكان القطاع. وقبل كل ذلك، اضطرّت إسرائيل في النهاية إلى إطلاق سراح أسراها عبر اتفاق سياسي، فرضه ثبات المقاومة وضغط الإدارة الأميركية الجديدة، وليس عبر الضغط العسكري، على عكس ما أرادته الحكومة الإسرائيلية طوال الوقت.
وعلى الرغم مما خلفته الحرب من عشرات آلاف الشهداء، وأكثر من مائة ألف جريح، ودمار كامل للقطاع، وإضرار مؤكّد بالمقاومة، عملت على معالجته، وإعادة بناء قوتها، فقد تركت، في الوقت نفسه، جروحا غائرة في العقل الجمعي الإسرائيلي، نتيجة حالة الاستنزاف والتغيرات الاجتماعية والسياسية السلبية، واليأس من تحقيق الأهداف عبر الحرب، دفعت الإسرائيليين إلى اعتبار الحرب في غزّة لعنة حلت بإسرائيل. وقد عكست تعليقات المؤثرين والمدونين الإسرائيليين في وسائل التواصل الاجتماعي هذه المشاعر السلبية، وحالة اليأس؛ وانتشرت عبارات على غرار “اكتفينا من هذه الحرب الملعونة”، “آمل أن يتوقف هذا الجحيم الليلة عبر اتفاق ينهي هذا الألم الذي يعيشه الجنود والمخطوفون من دون أي عراقيل ناتجة عن مصالح شخصية خاصة”، “لا بد من وقف الحرب”.
فشل الجيش الإسرائيلي في القضاء على المقاومة، التي جدّدت نفسها باستمرار
ولا يمكن، في أي حال، اعتبار هذه التغريدات والتعليقات مواقف فردية، فهي انعكاسٌ لتحولاتٍ كبيرة أحدثها الأداء الإعجازي للمقاومة وحاضنتها في غزة خلال شهور الحرب الطويلة والثقيلة. وتعكس استطلاعات الرأي الإسرائيلية هذه التحوّلات الكبرى؛ فطبقا لاستطلاع أجراه المعهد الإسرائيلي للديمقراطية، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2023، كانت نسبة اليهود الإسرائيليين المؤيدين استمرار القتال في غزة ومواصلة الضغط العسكري لإطلاق سراح الأسرى 87% (93% من اليمين، 84% من الوسط، 74% من اليسار)، بينما كشف استطلاع آخر للمعهد نفسه في يناير/ كانون الثاني الحالي تأييد 58% من يهود إسرائيل صفقة شاملة لتحرير الأسرى وإنهاء تام للحرب، وتراجعت تماما نسبة الراغبين في مواصلة القتال والضغط العسكري إلى 23%، ما يعني تراجع التأييد تماما لاستمرار الحرب في غزة.
إذا انتقلنا إلى مستوى الثقة في الجيش الإسرائيلي، فهنا أيضا يُلاحظ تراجع مستوى ثقة يهود إسرائيل خلال مراحل الحرب، ففي أكتوبر/ تشرين الأول 2023 كانت درجة الثقة 87%، وكان 30% يعتقدون، بدرجة كبيرة أو كبيرة جدا، أن إسرائيل ستقضي على حركة حماس، و38% يعتقدون ذلك بدرجة متوسّطة، و29% يعتقدون ذلك بدرجة محدودة، وكان 78% من اليمين الإسرائيلي يعتقدون أن يتم تحرير الأسرى الإسرائيليين عسكريا، و57% من الوسط، و28% من اليسار لديهم نفس الاعتقاد، لكن هذه الثقة تراجعت مع طول الحرب حتى وصلت إلى 77% فقط في استطلاع ديسمبر/ كانون الأول الماضي. وعلاوة على ذلك، كان استطلاع رأي نشره معهد دراسات الأمن القومي، ديسمبر الماضي، كشف تراجع ثقة اليهود الإسرائيليين في تحقيق جيشهم الانتصار في غزّة مقارنة بدرجة الثقة في أول الحرب.
جدير بالإشارة هنا أن استطلاعا، أجري في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، كان كشف عن رغبة اليمين الإسرائيلي في استيطان غزّة أو إخضاعها لحكم عسكري إسرائيلي عبر تأييد 60% من اليمين للأولى، و68% للثانية، وهما رغبتان سقطتا فعليا بمقتضى الاتفاق المعلن، رغم أن اليمين نفسه، بمكوّناته المتباينة في تطرّفها، هو الذي يحكم إسرائيل، وهو ما عظّم حجم الشعور بالاستسلام لشروط المقاومة لدى المنتمين لليمين في إسرائيل، وخصوصا أنصار التيار الديني القومي الذي ينتمي إليه الوزيران بن غفير وسموتريتش.
أبدى 67% من اليهود الإسرائيليين قلقهم الكبير أو الكبير جداً من الوضع الاجتماعي في إسرائيل في اليوم التالي للحرب
الأهم هنا، والذي ينتظر أن تكون انعكاساته أيضا خطيرة على إسرائيل، يرتبط بمؤشّرات سلبية بشأن الوضع الاجتماعي ما بعد الحرب؛ حيث أبدى 67% من اليهود الإسرائيليين قلقهم الكبير أو الكبير جدا من الوضع الاجتماعي في إسرائيل في اليوم التالي للحرب، وثمّة توقعات إسرائيلية باتساع رقعة الاحتجاجات وحجمها لمحاسبة المسؤولين عن فشل “7 أكتوبر”، حتى أن 73% من الإسرائيليين اليهود (74% من اليمين، 69% من الوسط، 86% من اليسار) توقّعوا ذلك، حسب استطلاع المعهد الإسرائيلي للديمقراطية. إلى جانب ذلك ثمة تخوف كبير في ما يتعلق بمستوى التماسك المجتمعي؛ وتظهر المقارنة تراجعا كبيرا في قناعة اليهود الإسرائيليين تجاهه؛ ففي ديسمبر 2023 كان 17% فقط يعتقدون أن درجة التماسك متدنية، لكن في سبتمبر/ أيلول 2024 كانت هناك قفزة كبيرة في الاعتقاد بهذا التدني 44.5%، وفي المقابل كان 60% في ديسمبر 2023 يعتقدون أن التماسك المجتمعي مرتفع، غير أن ذلك تراجع بشكل مخيف في سبتمبر/ أيلول 2024 ليصبح 27% فقط.
ما سبق يعني أن نهاية الحرب في غزة لن تكون نهاية الأزمات الإسرائيلية، وأغلب الظن أن الأزمات الكبرى لدولة الاحتلال لم تأت بعد، وأن الأسئلة الأكثر أهمية ترتبط بأوضاع ما بعد الحرب، وأن الهدوء الذي ستشهده المنطقة والداخل الإسرائيلي على خلفية اتفاق وقف إطلاق النار وتبادل الأسرى سوف يثير صراعات سياسية واجتماعية في الداخل الإسرائيلي، وقضايا جرى تأجيلها بسبب الحرب؛ حول المسؤولين الحقيقيين عن الفشل في “7 أكتوبر” ومحاكمتهم، وحول إضرار الحكومة بالعقد الاجتماعي بين الدولة والمواطنين والتسبب في مقتل أسرى إسرائيليين كثيرين، وذهاب إلى صفقة متأخرة كان يمكن أن تنقذ كثيرا من الأسرى لو تم تبكيرها، وحول فشل الجيش في تحرير الأسرى، أو القضاء على المقاومة بعد 15 شهراً من القصف الجوي، والقتال على الأرض، وتذبذب ثقة الجمهور الإسرائيلي في أدائه طوال الحرب، وتراجعها عما قبلها، وتدهور مستوى قادة الأجهزة الأمنية والعسكرية وعدم كفاءتهم، وما واكبه من قلة كفاءة القوات البرّية الإسرائيلية التي تقاتل على الأرض رغم التفوق التكنولوجي الرهيب لمصلحتها، ونهاية نظرية الردع الإسرائيلي في المنطقة، وعن تحوّل الجيش إلى الثيوقراطية بصورة متدرّجة، ومحاولات التيار الديني القومي السيطرة عليه؛ في ظل إحصاءات تعود لعام 2015 عن أن 49% ممن أنهوا دورة ضباط القوات البرّية في الجيش الإسرائيلي كانوا ينتمون لهذا التيار، وهو ما انعكس على أداء هذه القوات في الحرب داخل غزّة. ومن المرجّح أن تثار قضية الصراع بين القيادة السياسية والعسكرية، والتسريبات المتبادلة بينهما والعلاقات الفضائحية بين وزراء الحكومة والقادة العسكريين، التي شعر بها الإسرائيليون كافة، وأن تثار مسألة التصعيد للمراكز القيادية في الجيش، والفساد المالي، إلى جانب التساؤل عن الحرّيات وقمع المظاهرات والعنف الشرطي… هذه القضايا وغيرها لن تقلّ تأثيراتها السلبية في إسرائيل على الأرجح عن تأثيرات الحرب نفسها.
المصدر: العربي الجديد