سمر يزبك
تظهر الدكتورة ليلى سويف في إحدى الصور وهي مستلقية على الأرض. صورةٌ تختزل عمق معاناتها في معركتها الطويلة، حيث تبدو الأرض وكأنها أصبحت ملاذها الوحيد في مواجهة الظلم. هذه الوضعية الرمزية تعبّر عن الإنهاك والعزلة، وتضعنا أمام حقيقة قاسية: أن التضحية من أجل الحرية قد تعني التخلي عن كل شيء حرفيّاً. يبدو الجسد هنا وكأنه إعلانٌ صامتٌ لكنه صاخب. استلقاؤها على الأرض ليس تعبيراً عن الانكسار، بل عن التحدّي؛ إنها تتحدّى بنية السلطة التي تُريد إجبارها على الوقوف وفق شروطها. هنا يصبح الجسد أداة احتجاج، حيث ترفض اللغة التقليدية وتستعيض عنها بمشهد مرئي يكسر نمطية الخطاب ويُعيد صياغة أسئلة الهوية والمقاومة، يتجلّى هنا تمامًا مفهوم “الجسد المقاوم” الذي طرحته جوديث بتلر. فالجسد هنا ليس مجرد كيان مادي، بل هو تعبير سياسي، مسرح حيث تتقاطع علاقات القوة والنضال. ليلى سويف، كأم وأكاديمية ومواطنة، تستخدم جسدها كأداة رمزية لقول: “لن أتحرك حتى تتحرك العدالة”. الأرض التي تنام عليها ليست مجرّد سطح جامد، بل هي فضاء مليء بالرمزية؛ الأرض التي ننتمي إليها جميعًا، والتي غالبًا ما تسلبها السلطات من الناس.
في صورة أخرى، تحمل ليلى سويف صورة ابنها أمام البرلمان البريطاني، في مشهد احتجاجي يسلّط الضوء على أبعاد قضية المعتقلين السياسيين في مصر. استحضار بصري لفقدان مزدوج. علاء غائبٌ بالجسد، لكنه حاضر بقوة من خلال هذه الصورة. المشهد هنا يتجاوز المعنى المباشر: إنه استدعاء للتاريخ الشخصي والأسري والسياسي. لا تحمل ليلى صورة ابنها فقط، بل تحمل سؤالاً عن العدالة، الحرية، وحق الفرد في الوجود بلا قيد. علاء غير موجود فعليّاً، لكن حضوره تُعاد صياغته من خلال الصورة التي تحملها أمه. إنها ليست مجرد صورة جامدة، بل أداة تفجير للأسئلة عن طبيعة الحرية، وما يعنيه أن يكون المرء إنساناً في ظلّ نظام يحاول تجريده من كينونته. هذا الفعل يبرز كصرخة عالمية للعدالة، حيث يتحول احتجاج فردي إلى دعوة للإنصاف تتجاوز الحدود الوطنية، لتصبح قضية علاء عبد الفتاح رمزًا لمحنة أوسع يعانيها كثيرون.
في الصورتين تكون السبعينية ليلى سويف وحدها، سواء كانت مستلقية على الأرض أم جالسة على الرصيف تحمل صورة بطلها “ابنها” علاء.
علاء عبد الفتاح، الناشط الحقوقي والمبرمج المولود في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 1981، يُعتبر من أبرز الأصوات التي نادت بالحرية والديمقراطية خلال ثورة يناير (2011). لم يكن نشاطه مقتصراً على السياسة فحسب، بل شمل دعم حقوق الإنسان وحرّية التعبير. مع ذلك، وجد نفسه في مواجهة النظام الذي حكم عليه بالسجن خمس سنوات بتهمة “نشر أخبار كاذبة”. ورغم انتهاء مدّة عقوبته القانونية، أصرّت السلطات المصرية على تمديد فترة حبسه استنادًا إلى تفسير تعسّفي للقانون، ما أدّى إلى تمديد حبسه حتى يناير/ كانون الثاني 2027. هذا التصرف أثار موجة من الانتقادات المحلية والدولية، إذ اعتُبر انتهاكًا لحقوقه القانونية وتعسّفاً سياسيّاً
الإضراب عن الطعام ليس مجرد احتجاج شخصي، بل هو فعل يتجاوز الذاتية ليعبر عن نضال المرأة المصرية التي قدمت كل شيء من أجل أبنائها
بدأت ليلى سويف إضرابًا عن الطعام في 30 سبتمبر/ أيلول 2024، احتجاجًا على استمرار حبس ابنها. مع مرور الأيام، تجاوز إضرابها المئة يوم، وخسرت أكثر من 18 كيلوغرامًا من وزنها، وأصبحت معاناتها الجسدية مرآة لمعاناة معنوية أعمق. في إحدى مقابلاتها، قالت: “أدرك أني أقامر بحياتي، ولكن ما دون ذلك سيكون أسوأ بكثير”. كلماتها هذه تلخّص معادلة الأم التي ترى أن التضحية بحياتها أقل ألمًا من القبول بالظلم الذي يعانيه ابنها.
ليس الإضراب عن الطعام في هذا السياق مجرّد احتجاج شخصي، بل هو فعلٌ يتجاوز الذاتيّة ليعبّر عن نضال المرأة المصرية التي قدمت كل شيء من أجل أبنائها، وهنا يصبح الأبناء رمزًا للشعب بأسره. من خلال هذه التضحية، تتحوّل ليلى سويف إلى رمز للأمل وللنضال من أجل الحرية. وحدتها في هذه المعركة تعكس شجاعة استثنائية، حيث تتحدّى قوالب السلطة التقليدية وتصرّ على جعل صوتها مسموعاً في مواجهة التجاهل المجتمعي والسياسي.
ورغم الدعم الدولي لقضية علاء عبد الفتاح، فإن نضال ليلى سويف اتسم بوحدة ملحوظة، وهو ما يمكن قراءته كتحدٍ للفردية في مواجهة الأنظمة الجماعية القمعية. هذه الوحدة لا تُضعف نضالها، بل تمنحه عمقًا جديدًا، حيث تبرز الفرد قوة تغييرٍ قادرةً على مواجهة النظام. يعكس اختيارُها الإضراب عن الطعام وسيلة احتجاجية تمرّداً على الأشكال التقليدية للمقاومة، رغم أنها تقاوم ليس فقط من أجل ابنها، بل من أجل حقوق جميع المصريين في دولة قانون يحترم حقوق الإنسان. إنها لا تدافع فقط عن حقّ شخصي في الحرية لأبنائها، بل تُجسد بأفعالها موقفاً أخلاقيًا يمتد ليشمل الشعب بأسره، حيث تصبح أفعالها دعوة لإعادة التفكير في العلاقة بين الفرد والسلطة، وفي القيم المجتمعية التي نتشبث بها. ويُعيد إلى الأذهان نضالات النساء المصريات عبر التاريخ، من هدى شعراوي إلى صفية زغلول ونساء الثورة الحديثة. هؤلاء النساء لم يقُدن النضال فقط، بل شكّلن عموده الفقري. أمومة ليلى سويف هنا تتجاوز العلاقة البيولوجية لتصبح إمًّا لكل معتقل ومظلوم في الوطن بأسره.
تُجسّد ليلى سويف بفعلها هذا قيمة الإرادة التي ترى أن الإنسان هو من يصنع معناه وقيمته من خلال أفعاله واختياراته
من الناحية الأخلاقية، تُبرز هذه الوحدة المأساة التي يعيشها كل من يصرّ على المضي في نضال من أجل العدالة، بينما يتجاهله المجتمع المحيط به، حيث تزداد الأنماط الفردية والانعزالية في ظل الهياكل الاجتماعية المعقدة، ويستطيع الاستبداد أن يحول تجربة المطالبة بالعدل بحده الأدنى إلى تجربة حادّة، تعكس الإحساس بالعزلة في زمن تتناثر فيه القيم وتتعقد فيه العلاقات الاجتماعية. من هذا المنطلق، يُنظر إلى إضراب ليلى سويف فعل مقاومة ذاتيًا يتحدّى السلطة والمجتمع معًا، ويكشف عن مدى عجز المجتمع في دعم المناضلين الذين يسعون لتغيير الأوضاع في بيئة تتسم بالجمود الاجتماعي والسياسي في زمن أصبحت فيه الهوية الفردية تتجاوز الجماعية، حيث تصبح الحركة الاحتجاجية أكثر هشاشةً وتواجه تهديدات أكبر في محيطها الاجتماعي والسياسي. ويصبح المناضل عالقاً في دائرة من الإحباط، ولكن في نفس الوقت يظهر استمراره كمثال على قدرة الفرد على البقاء ثابتاً رغم تجاهل المجتمع له. في حالة ليلى سويف، تتضح هذه المعادلة بشكلٍ حاد، حيث تظل ثابتة في موقفها رغم التجاهل النسبي من قبل المجتمع وأحياناً من القوى الدولية. إن قرار ليلى بالإضراب رغم المخاطرة بحياتها يعكس إيماناً عميقاً بأن الكرامة لا تُمنح بل تُنتزع. فهي تُظهر للعالم أن القوة الحقيقية تكمن في مقاومة الظلم، وأن الجسد قد يكون ضعيفاً، ولكن الروح يمكن أن تظلّ قوية في مواجهة الطغيان. وتؤكّد أن النضال من أجل العدالة والحرّية هو فعل يرتقي بالمجتمع بأسره، وينبغي أن يكون دافعًا لإعادة تقييم قيمنا وأولوياتنا أفرادًا وجماعاتٍ. وهي في هذا السياق تُعيد تعريف النضالين، الفردي والجماعي، معاً، هذا التمرّد الشخصي ضد الأنظمة القمعية يبرز أداةً لإعادة صياغة العلاقة بين الفرد والسلطة، ويحمل رسالة أملٍ لكل من يسعى إلى التغيير.
تُجسّد ليلى سويف، بفعلها هذا، قيمة الإرادة التي ترى أن الإنسان هو من يصنع معناه وقيمته من خلال أفعاله واختياراته، وأن الحرية تستحقّ أن يُضحى من أجلها، حتى لو كان الثمن هو الحياة نفسها. لتظلّ إرادتها شاهداً حيّاً على قوة الإرادة البشرية، وعلى قدرة الإنسان على التضحية من أجل ما يؤمن به. إنها فرصةٌ للتأمّل في معاني الحرّية والعدالة، وللاستمرار في النضال من أجل تحقيقها، والأهم أنها فرصةٌ للتأمّل في قوة الأمومة حين تكون دفاعاً عن الحرية وعن وطنٍ بحجم الوطن المصري.
المصدر: العربي الجديد