لميس أندوني
مؤكّدٌ أن هناك خفايا وراء صرامة الرئيس الأميركي المنتخب، دونالد ترامب، وإجباره رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتانياهو، على قبول اتفاق وقف إطلاق النار في قطاع غزّة. لكنّ هناك أسباباً واضحةً لها علاقة بشخصية ترامب وتمادي نتانياهو في عصيان الداعم الأميركي الاستراتيجي لإسرائيل.
يقترب غضب ترامب من قلق إدارة الرئيس جو بايدن من تهوّر نتنياهو وتعريضه مصالح إسرائيل للخطر في المنطقة. الفرق أنه ليس لدى بايدن الشجاعة لاتخاذ موقفٍ حازمٍ من تمادي نتنياهو وارتكابه حرب إبادة ضد الشعب الفلسطينيي في غزّة أمام الشاشات، ما يضعف من قدرة واشنطن على حماية إسرائيل، فمنذ بداية الحرب وجدت أميركا نفسها معزولةً في منصّاتٍ أممية مهمة، ما جعل الإدارة تبدو ضعيفة ومهزوزة أمام الأميركيين والعالم.
بخلاف ترامب تماماً، الذي يأبى أن تفقد هيبتها بصفتها دولة عظمى مهيمنة على كل أصقاع المعمورة، وفقاً لتقديره، ويرفض أن تقوم دولة تعتمد في غزوتها وترسانتها العسكرية على أميركا، ثم تفعل ما تشاء، ولا تبالي باعتراض واشنطن وتستهتر بتداعيات الحرب على مصالحها في المنطقة.
لا يتبنّى الرئيس الأميركي دونالد ترامب الصهيونية، وأهدافها المبنية على عقلية “استعمارية استيطانية” تستند إلى أساطير يهودية أو صهيونية
اكتشفت إدارة بايدن متأخّرة أن إسرائيل لن تستطيع إنهاء حركة حماس، وقد اعترف وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، خلال خطابه الوداعي بفشل إسرائيل في القضاء عليها، بل اعتقاده أن الحركة استطاعت تجنيد أعداد مضاعفة. لكن الأهم أنه قال، وللمرّة الأولى، أنه حتى لو قُضي على “حماس” فستظهر حركة مشابهة أخرى، ما دام لا يوجد أمل للفلسطينيين في تسوية أوضاعهم.
تدلّ يقظة بلينكين المتأخّرة، وهو الصهيوني العلني، على التعنت الأميركي في الإقرار بحقائق واضحة لكثيرين في العالم، لكنه استيقاظ على أن الحرب تؤثر على المشروع الأميركي الذي يتقاطع مع أجندة ترامب في تحقيق تطبيع تحالفي عربي مع جميع الدول العربية، بعد ضم السعودية المأمول إلى ركب التطبيع، وإنشاء ائتلاف عسكري يجمع الجيوش العربية تحت قيادة إسرائيل وأميركا، غير أن اعتراف بلينكن بأن طوفان الأقصى “أفشل” مراحل متقدّمة من توقيع اتفاق سعودي – إسرائيلي مهم ولا يفوت ترامب، لكنّ كليهما تهمّهما نتائج الحرب، وأهمها الفشل في القضاء على “حماس” وذعر الدول العربية من المخطّطات الإسرائيلية التوسعية في سورية والأردن ولبنان.
إصرار ترامب على إنفاذ وقف إطلاق النار قبل تنصيبه رئيساً جديداً للولايات المتحدة رسالة إلى الجميع بأنه رجل فعل ولا يكتفي بالكلمات، وأنه غير مستعدٍّ للالتهاء بتعقيداتٍ يمكن تجاوزها، ووضع إدارة بايدن أمام مسؤولياتها، فيما استقوى بايدن وبلينكن بحزم ترامب وقوته لفرض وقف إطلاق النار الذي بدا واضحاً أن إدارة بايدن كانت تتمنّاه، لكنها افتقدت الإرادة السياسية لفرضه، ربما لخوفها من أن تفقد فرصتها في الفوز بولاية ثانية. لكن النتيجة جاءت عكسية؛ إذ كانت غزّة عاملاً مهماً في خسارتها أمام الجمهوريين وترامب. الغريب أن المؤسّسات الداعمة لإسرائيل في أميركا كانت منقسمة حيال نتنياهو، بل إن خبراء معقل الصهيونية الأهم، أي معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى، كانوا وما زالوا من ناقدي نتنياهو، ودعا عدد منهم إسرائيل إلى إعلان وقف إطلاق فوري من جانب واحد. إذ أضرّ مسار الحرب بصورة إسرائيل، وبهدف واشنطن لدمجها في المنطقة، أملا أن يؤدّي ذلك إلى شطب القضية الفلسطينية من الخطاب السياسي العربي والذاكرة الشعبية. عدا عن أن مؤيدي إسرائيل من الكتاب والصحفيين وعدد كبير من العاملين في المجال العام في الولايات المتحدة أصبحوا يفرّقون بين إسرائيل نفسها ونتنياهو وتحالفه “الفاقع” مع المستوطنين، وإن كان ذلك نوع من خداع النفس وفرصة لبايدن لو أراد توظيفها لردع عنجهية نتانياهو بدل المشاركة الفعلية في حرب الإبادة. وهذا لا يعني أن ترامب أصبح مؤيّداً لحقوق الشعب الفلسطيني، لكنه يؤمن بشعار “أميركا أولاً”، أي مصلحة أميركا في المقدمة، ولهذا الشعار مآلات خطيرة. لكن إجبار ترامب نتانياهو بإقرار وقف اطلاق النار، وإن كان الأخير سيحاول إيجاد طرق لاستمرار حربه على غزّة، فرض عليه المثول لما يريده ترامب.
تحدّث ترامب، أخيراً، عن صدمته بما رآه عبر الشاشات في غزّة، وبدا صادقاً، فجرائم إسرائيل فاقت كل الحدود، وهي موثقة على الهواء مباشرة
السؤال: كيف سيؤثر ذلك على قاعدة ترامب من أتباع الصهيونية المسيحية؟ المشكلة هي في قيادات الكنيسة من أباطرة المال الذين يخدعون المنضمين لكنائسهم بأن ما تقوم به إسرائيل ضروري لظهور المهدي المنتظر، ومن المؤكّد أن نتنياهو سيسعى إلى تأييدهم وتأليبهم على ترامب.
طبعاً، يستطيع ترامب أن يلجأ إلى التفريق بين إسرائيل ونتنياهو، ويساعده بذلك شبه إجماع في المؤسّسة الأميركية على أن نتنياهو أصبح خطراً على إسرائيل، رغم تصفيق أعضاء الكونغرس لخطابه الإجرامي في مقر الكونغرس، وقد يضطر ترامب إلى مواجهة قيادات الكنيسة التي راكمت الثروات على حساب رعاياها، لكنه العارف بأسرارها. لذا؛ سيسعى ترامب وبسرعة إلى تحقيق تطبيع سعودي إسرائيلي، يكمل ما بدأه، وعجزت عنه إدارة بايدن، وإلى تنفيذ “صفقة القرن” بما تعنيه من ضمٍّ إسرائيلي للمستوطنات واقتطاع أراض إضافية من الضفة الغربية، ومن قطاع غزّة أيضاً، ويكفي اعترافه بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل وبالجولان جزءاً من إسرائيل.
يصعب التنبؤ بكل خطوات ترامب، وإن كانت تعييناته الداخلية تنبئ بمرحلة قمع قاسية، وقد تتفوّق على “المكارثية”، في قسوتها على المجموعات والمنظمات المؤازرة للفلسطينين ولحقوق المهاجرين، ولكن ذلك لا يتعارض تماماً مع مواجهة بين نتنياهو وترامب الذي يعتقد أن هذا الرجل يعرّض مصالح أميركا لخطر.
لن يتوقف دعم أميركا إسرائيل، لكن مقداره وكيفية إدارته قد تتغيّر قليلاً
يتأثّر الأميركيون كغيرهم من الشعوب بوجود رئيس قوي وشرس في حمايته مصالح أميركا كما يراها هو، فموقفه من وقف إطلاق النار لا يغيّر مطامعه التوسّعية في كندا ونيوزيلندا، كما تقتضيه “مصالح الأمن القومي الأميركي”، فهو شبيه إسرائيل عملياً في فهمها تبريراتٍ أمنية تتيح له المطالبة بأراضٍ ليست تابعة لأميركا، لكنه لا يتبنّى ولا يدّعي تبني الصهيونية، وأهدافها المبنية على عقلية “استعمارية استيطانية” تستند إلى أساطير يهودية أو صهيونية.
تحدّث ترامب، أخيراً، عن صدمته بما رآه عبر الشاشات في غزّة، وبدا صادقاً، فجرائم إسرائيل فاقت كل الحدود، وهي موثقة على الهواء مباشرة، بخلاف حرب إبادة سكان أميركا الأصليين، وإن كانت لا تختلف عنها. وإذا عّبر ترامب عن مشاعره مجدّداً فسيكون لها تأثير على الشارع الأميركي، لكن هل من الممكن التناغم بين صدمته مما حدث ويحدُث للغزّيين والسياسات الفعلية لمرشّحيه اليمينيين العنصريين لقيادة الحكومة الأميركية؟
لن يتوقّف دعم أميركا إسرائيل، لكن مقداره وكيفية إدارته قد تتغيّر قليلاً، وذلك يعتمد على مواقف الحكومات العربية، وهذه ما زالت هزيلة… وترامب لا يفهم لغة الضعفاء، ولا يعنيه إلا رؤيته مصالح أميركا.
المصدر: العربي الجديد