سمير الزين
أيّ مشاعر تنتاب المرء عندما يعود إلى المكان الذي قضى فيه جلَّ عمره، بعد 12 عاماً من الغياب؟ أيّ مشاعر من الفرح العارم بسقوط النظام المجرم بعد سنوات من القتل الجماعي الوحشي للسوريين، وتدمير البلد؟ يأتي الفرح العارم مغمّساً بغصّة ألم، من الحجم المهول للجريمة التي ارتكبها النظام بحق البلد الذي تعرض على مدى سنوات لسحق وحشي وعنيف، سحق عدواني غادر ومنحط، سحق حطم البشر والمجتمع والمعمار، وحول البلد إلى دمار بشع. حاكم أبله ورث الحكم عن أبيه، زرع الموت في كل المدن والأرياف السورية، حتى في كل بيت سوري، وأرتكب جرائم عظمى بحق بلده، يصدق عليه ما قالته حنة أريندت: “أعظم الشرور يرتكبها أشخاص نكرات”
حكم رجل أبله سورية خلال ربع العقد المنصرم. وطوال هذه الفترة، كان السوريون في حالة إنكار، أن الرئيس الذي يحكمهم مجرّد أبله، لأنهم لم يرغبوا بالتصديق، حتى بينهم وبين أنفسهم، أن أبله يحكم 24 مليون سوري ورث عن أبيه آلة قتل رهيبة، كان الأب قد جرّب فعاليتها الرهيبة والوحشية في هدم مدينة حماة على رؤوس سكانها في فبراير/ شباط 1982. وهي آلة القتل نفسها التي حمت توريث الأب الميت الحكم للابن الأبله، وهي نفسها التي ضغط الرئيس الأبله زر تفعليها فيقتل السوريين من دون أن يمارس أي سياسة، على اعتبار أن السوريين “يحبّونه” حتى عندما يقتلهم، ولا أبالغ إن قلت إن سورية في فترة الابن كانت محكومة من قبر الأب.
ولدتُ في 1964 وكان قد مضى على انقلاب حزب البعث حوالي العام، فرض على أثر نجاحه الأحكام العرفية على البلد، التي ألغت كل حالة طبيعية فيه، وحالة الطوارئ التي يُفترض أن تُرفع في أسرع وقت ممكن والعودة إلى الحالة الطبيعية، لم يحصل شيءٌ من هذا، وبقي المرسوم مسلطاً على رقاب السوريين عقوداً، وحتى عندما رُفع تحت ضغط الثورة السورية، كان الرفع شكلياً، وبقيت آلة القتل تحصد أرواح السوريين.
لم يعرف السوريون من جيلي الوضع الطبيعي في حياتهم، فقد ولدوا وعاشوا حياتهم في ظل الاستثناء العرفي، الذي كرّسته الدولة الأمنية التي سلط فيها الطاغية أجهزة المخابرات على الناس لتنتهك حياتهم على كل المستويات، فقد عاش البلد طوال حكم “البعث” والأسديْن الأب والابن، في حالة انتهاك مستمرّة، تم خلالها تدمير حياة البشر، وجعل الخوف والرعب هو الأساس في سياسات الإخضاع المجتمعي. وفي مطلع الثمانينيات، مع الصراع مع الإخوان المسلمين، لم يتم قمع القوى السياسية ووضع أعضاء الأحزاب السياسية المعارضة، إسلامية ويسارية في السجون سنوات طويلة، أغلبهم تجاوز توقيفهم أكثر من عقد فحسب، بل جرى قطع السياسة في سورية، وتجريف الفضاء العام السوري ليس من العمل السياسي، بل وحتى من العمل الاجتماعي أيضاً، حيث تم احتكار السياسة من الطاغية وتكريس الأجهزة الأمنية بوصفها أداة الضبط الوحيدة للتعامل مع المجتمع، وحرست بالحديد والنار الفضاء العام من أي قادم من أصحاب هذا الفضاء إذا حاول الدخول إليه.
عاش السوريون في الستين عاماً التي حكم فيها “البعث” مقطوعي اللسان، لا ينطقون سوى بما تريده السلطة
بعد استقلال سورية في 1947، انشغل رجالات الاستقلال ببناء وطنية سورية جامعة لكل التنوّع السوري، رغم الانقلابات التي بدأت مبكّراً في سورية، لم تتجاوز الفترة الفاصلة بين الاستقلال وحكم “البعث” سوى 16 عاماً بما فيها فترة حكم الانقلابات السابقة على “البعث” الذي حكم البلد 61 عاماً منذ انقلاب 1963 حتى سقوط النظام الأسدي 2024، وعمل هذا النظام على تصغير سورية بوصفها قُطراً، كتعبير سياسي مرذول، بوصف “البعث” الحزب الذي يسعى إلى تحقيق الوحدة العربية الكاملة بين الأقطار العربية. وفي الوقت الذي رفع فيه البعث السوري الشعارات القومية الكبرى، كان يطيّف البلد، وينتج أسوأ طائفة في البلاد عابرة للطوائف، وهي “الطائفة الأسدية”، وبذلك لم يعمل النظام البعثي على تصغير البلد وتصغير الشعب، ولم يحطّم نواة الوطنية السورية التي بدأ بتشكيلها رجالات الاستقلال فحسب، بل حطّم البلد والنسيج المجتمعي أيضاً.
مع الأسد الأب، جرى اختصار البلد به، ولم تعد الجمهورية العربية السورية، بل أصبحت “سورية الأسد” ولعقود كان على أجيال من السوريين ترديد الشعار، ففي كل اجتماع صباحي في المدارس أو وحدات الجيش أو أي اجتماع مهما كان موضوع اجتماعه، عليه أن يردّد خلف خطيب أو مدير أو أياً كان، إذ يقول: “قائدنا إلى الأبد” وعلى الجموع أن تردّد خلفه “الرئيس حافظ أسد” وبقي الشعار يُردّد حتى بعد موت الرجل بسنوات طويلة. لم يكن هذا شعاراً سياسياً أو شعاراً ضد منطق الطبيعة، من حيث الرئيس بشرٌ سيمر عليه الموت كما مرّ على غيره. لقد جرى رفعه فوق البشر، ليس من أجل احتكار السياسة والسلطة بالأجهزة الأمنية فحسب، وبل من أجل تحطيم المجتمع، وتحويل المواطنين إلى رعايا، أو بالأصح إلى عبيد.
سورية التي دمّرها المجرم بحاجة إلى التعافي، من جراحات القتل ومن جراحات التاريخ المخزي للحقبة البعثية ـ الأسدية
لقد عاش السوريون في الستين عاماً التي حكم فيها “البعث” مقطوعي اللسان، لا ينطقون سوى بما تريده السلطة، أي كلام يُقال، حقوق سياسية، وحرية تعبير، أو أي شكل من أشكال الاحتجاج أو المحاولات للتواجد في الفضاء العام السوري، كان الاجتثاث بالسجن الطويل هو الرد السياسي الوحيد على هذه المحاولات. عشرات آلاف المعتقلين السياسيين الذين اعتقلوا في زمن الأب، ودمّر مدينة وقتل عشرات الآلاف في مدن أخرى. في زمن الابن، اعتقل النظام مئات آلاف من السوريين، وقتل مئات آلاف بكل أنواع الأسلحة، وأعدم عشرات آلاف ودفنهم في مقابر جماعية تغطي المدن السورية، وهجّر الملايين من منازلهم.
سورية التي دمّرها المجرم بحاجة إلى التعافي، من جراحات القتل ومن جراحات التاريخ المخزي للحقبة البعثية ـ الأسدية. لا تحتاج سورية إلى التعافي من الدمار، والتعافي بعدالة انتقالية وعدالة اجتماعية وأمن شخصي فحسب، السوريون بحاجة ماسة لاستعادة لسانهم المقطوع أيضاً، بحاجة إلى احتلال الفضاء العام، ليس فقط من أجل أن يستعيدوا حقهم بالمطالبة بحقوقهم، بل وليستعيدوا لسانهم المقطوع وحقهم في الكلام في الفضاء العام دون أن يحاول أحد قطع لسانهم من جديد.
وأنا في طريق العودة إلى دمشق، كنت أعتقد أن العودة تتعلق بالتعرّف من جديد على المكان الذي غادرته، ومعرفة ما فعل الزمن بالمكان الذي كونني وفيه أصبحت من أنا. عندما أصبحت في دمشق، اكتشفت أني أتعرّف على نفسي من جديد في شوارع المدينة.
المصدر: العربي الجديد