أسامة أبو ارشيد
لا يختلف عاقلان على أن المشروع الوطني الفلسطيني يعاني من غياب البوصلة والقيادة، هذا إذا لم يكن هو نفسه غير قائم. هذا لا يعني أنه لا يوجد قهر واحتلال وحشي بغيض، كما أن ثمَّة حقوقاً وشعباً متمسكاً بها ويضحّي في سبيلها، ومقاومة سلمية ومسلحة تناضل وتقاتل من أجل الحرية والخلاص ضمن معطيات صعبة وباهظة الثمن، وبنى “سلطة” تعدّ نفسها نواة دولة وتنخرط منذ عقود في مفاوضات سلام لم تُفض إلّا إلى ترسيخ الاحتلال وتوسيعه. الحقيقة، رغم قسوتها، أن الواقع الفلسطيني مأزوم ومشرذم وعوامل تناقضه الداخلي تضاهي تلك مع العدو الإسرائيلي، ومن ثمَّ، لن يتمّ أي نهوض فلسطيني أو حتى إشراقة بادرة أمل من دون مصارحات جريئة، وإجراءات إصلاحية عميقة، وتغييرٍ في بنى وأطر ووجوه تكلست وأصبحت عبئاً على المشروع الوطني الفلسطيني وعقبة في طريق بنائه واستعادة بريقه.
أعلم أن لا جديد في ما طرح سابقاً، فهو كلامٌ يعاد وَيُسْتَجَرُّ دائماً وأبداً، وقد بُحَّتْ أصوات رموز وناشطين وتجمعات ومؤسسات فلسطينية في الداخل والشتات وهي تدعو إلى إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس وطنية وديمقراطية وتمثيلية حقيقية. غير أن المتحكّم في مفاصل القرار الرسمي الفلسطيني يصم أذنيه عن كل تلك الدعوات والمناشدات، وهو يستند في شرعيّته إلى معادلة اعتراف إقليمية ودولية، فضلاً عن التفويض الإسرائيلي المشروط الممنوح له، وقوة القهر الأمنية الموفرة له من أجل تحقيق الدور المناط بها، وهو السيطرة على غضب الفلسطينيين ومقاومتهم، والقيام بدور الحارس لأمن إسرائيل. في المقابل، ثمَّة من ينتقد المقاومة الفلسطينية، سواء في الضفة الغربية أو في قطاع غزّة، بأنها خاضت وتخوض مغامرات عسكرية خطيرة أفضت في القطاع إلى جريمة إبادة إسرائيلية هائلة بحقّ عشرات آلافٍ من سكانه وتدميره عن بكرة أبيه تقريباً. فيما يخشى بعضهم أن الضفة الغربية تسير على الخطى نفسها، إذ إن تصاعد المقاومة الفلسطينية في وجه الاعتداءات الإسرائيلية قد تفضي إلى إعطاء المبرّر الذي تنشده إسرائيل لتنفيذ مخطط ضم أجزاءً واسعة من الضفة الغربية رسمياً، وتنفيذ جرائم وحشية فيها على نحو ما جرى في غزّة، ومن ثمَّ السعي لتفريغها سكانياً.
أغلب، إن لم يكن كل، فصائل المقاومة الفلسطينية، لا تمانع في أن تكون جزءاً من منظمّة التحرير، على أن يجري إصلاحها وإعادة بنائها وطنياً وديمقراطياً
في ما يتعلق بسياق المقاومة، ثمَّة من يدعو إلى ضرورة أن يخضع سلاحها واستخدامه لمرجعية وطنية عليا، أخذاً في الاعتبار الأثمان الباهظة التي تترتب وترتبت عنه. وبعيداً عن نقاش إيجابيات أشكال المقاومة الفلسطينية وسلبياتها، وبناها القائمة ضمن معطيات موازين القوى محلياً وإقليمياً ودولياً، فإن الحقيقة أن أغلب، إن لم يكن كل، فصائل المقاومة الفلسطينية، لا تمانع في أن تكون جزءاً من منظمّة التحرير، على أن يجري إصلاحها وإعادة بنائها وطنياً وديمقراطياً لتكون ممثلاً حقيقياً وشرعياً للشعب الفلسطيني. من أجل تحقيق هذا الهدف، خاضت تلك الفصائل مع قيادة حركة فتح والسلطة الفلسطينية ومنظمة التحرير حواراتٍ لا تعد ولا تحصى، وصلت حتى الصين وروسيا، من دون أن ينتج منها شيء. اتفاقات الغرف المغلقة كان يمحوها تصريحات وأفعال القيادة القابعة في رام الله، ذلك أنها من ناحيةٍ لا تؤمن بالشراكة، وهي تعتقد أنها صاحبة حق حصري وطبيعي في قيادة الشعب الفلسطيني، ولو عبر فوهات البنادق. ومن ناحية ثانية، أنها تدرك أن التفويض الممنوح لها إسرائيلياً وإقليمياً ودولياً يحدّد دورها وظيفياً، ومن ثمَّ فإنّ من غير المقبول المسّ بتلك البصمة الوراثية لها.
يتطلّب الأمر شجاعة للإقرار بذلك. عندما توجهت قيادة منظمّة التحرير إلى مفاوضات مدريد عام 1991، ثمَّ عندما وقعت اتفاقية أوسلو عام 1993، وبعد ذلك إنشاؤها السلطة الفلسطينية عام 1994 ضمن إكراهات وطنية كارثية على كل المستويات، فإنها لم تحرص على بناء توافق فلسطيني، أو على الأقل السعي لإيجاد حالة من التفهم بين القوى الفلسطينية المختلفة قائمة على شرح رؤية واستراتيجية من اتخذوا تلك القرارات. لم يحدُث شيء من ذلك قَطّ، بل على العكس، سعت السلطة جاهدة لسحق أي صوت معارض لها، وكانت النتيجة انقسام الموقف الفلسطيني على بعضه، وبعثرة المشروع الوطني واستنزافه في خلافاتٍ بينية. الحقيقة التي لا مراء فيها، أن القيادة الفلسطينية الرسمية، أو الفئة المختطفة للمشروع والقرار الوطني الفلسطيني، لم تحاول يوماً بناء موقف فلسطيني موحّد في الحدود الدنيا على الأقل، قائم على الحفاظ على المصلحة العليا للقضية والشعب الفلسطينيين.
لم تحاول القيادة الفلسطينية الرسمية يوماً بناء موقف فلسطيني موحّد، قائم على الحفاظ على المصلحة العليا للقضية والشعب الفلسطينيين
لندع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزّة جانباً، الذي تعاملت فيه، وما زالت قيادة السلطة الفلسطينية بنوع من التشفّي بخصمها السياسي، ممثلاً بحركة حماس، وكأن الشعب الذي يُباد ليس شعبها، في سبيل تحقيق “مكاسب” سياسية رخيصة. ما فعلته السلطة في مخيم جنين 44 يوماً من حصار له وهدم وحرق للمنازل فيه وقطع الكهرباء والماء عن أجزاء واسعة منه بذريعة مطاردة “خارجين عن القانون” كان فضيحة بكل المقاييس. خلال تلك الحملة، التي من السخرية أطلقت عليها أجهزة الأمن الفلسطينية “حماية وطن”، قتل 16 فلسطينياً من المدنيين، بينهم نساء وأطفال، وآخرون من المقاومين ورجال الأمن. يمكن لبعضٍ أن يجادل أن هدف السلطة كان نزع المبرّر من إسرائيل لاستهداف الضفة على غرار غزّة بذريعة وجود خلايا مقاومة فيها. لكن قيادة السلطة لم تسعَ للتواصل مع الفصائل المقاومة في الضفة الغربية وشرح وجهة نظرها لها. ما أرادته هو كسرها من دون التفاهم معها ضمن المصلحة الوطنية العليا. ولم تكد الوساطات الوطنية تنجح بينها وبين المقاومة (17 يناير/ كانون الثاني الجاري)، حتى شنّت إسرائيل (21 يناير) عدواناً واسعاً على مدينة جنين ومخيّمها، بعد أن انسحبت أجهزة الأمن الفلسطينية منهما بشكل مريب. حتى كتابة هذه السطور استشهد عشرة فلسطينيين في العملية العسكرية التي أطلقتها إسرائيل تحت اسم “الجدار الحديدي”، فيما نزح أكثر من 600 فلسطيني من مخيم جنين. أما السلطة الفلسطينية، فلا تكاد تسمع لها إدانة حتى، إذ سبق أن مارست الدور نفسه ضد أبناء شعبها هناك.
باختصار، نعم يحتاج الشعب الفلسطيني مرجعية وطنية شرعية عليا، ليس فقط في ما يتعلق بالمقاومة واستخدام السلاح، بل كذلك في ما يتعلق بالمفاوضات والاتفاقات التي تُعقد مع إسرائيل، فضلاً عمّن يحق له ادّعاء تمثليه شرعياً ووطنياً. من دون ذلك، سيبقى المشروع الوطني الفلسطيني غائباً، وسيدّعي كل طرفٍ تمثيله حسب فهمه له.
المصدر: العربي الجديد