خيري محمد
على الرغم من مرور عام ونصف العام على إثارة تواصل الخارجية الليبية مع إسرائيل، أعاد تأكيد الوزيرة السابقة نجلاء المنقوش الطبيعة الرسمية للاجتماع مع وزير الخارجية الإسرائيلي في أغسطس/ آب 2023، الجدل بشأن قدرة الفواعل الليبية على التغيير السياسي، وخصوصاً مع تداعيات استلام “الإسلام السياسي” للسلفية الجهادية السلطة في سورية. ومع الأخذ في الاعتبار تَزاحم المتغيرات. وفي ظل الصراع على الشرعية، ترسم ردود فعل الليبيين ملامح القوة السياسية واتجاهات تأثيرها على الحراك السياسي.
وفي مقابلة على شبكة الجزيرة 360 في يناير/ كانون الثاني الجاري، قدّم تصريح وزيرة الخارجية السابقة نجلاء المنقوش رواية متماسكة لمخالفة حكومة الوحدة الوطنية القانون 62 لسنة 1957 بمنع التطبيع وتجريم التواصل مع إسرائيل، إذ أشارت إلى تخلي رئيس الحكومة عبد الحميد الدبيبة عن توضيح مجريات اللقاء أو بدء تحقيقٍ بشأنه، على خلاف بيانات الحكومة في ذلك الوقت، حيث مالت إلى التشكيك في الالتزام بالضوابط الإدارية ومعايير السياسة الخارجية. فقد قامت رواية حكومة الوحدة على تأكيد الطابع العَرَضي للاجتماع، حيث انعقد على هامش اللقاء مع وزير الخارجية الإيطالي، كما خلا من أي مباحثاتٍ أو مشاورات، بل أكدت فيه الوزيرة ثوابت بلادها تجاه القضية الفلسطينية، ولذلك، رفض رئيس الحكومة محاولات الصحافة العبرية والدولية ترسيم اللقاء.
ومع إنكار حكومة الوحدة المسؤولية عن اللقاء، تُضفي تصريحات المنقوش عن وجود جدول أعمال للاجتماع غموضاً على تطلعات السياسة الليبية، سواء في ما يرتبط بالبحث عن خريطة مصالح مع إسرائيل في البحر المتوسط، لتخفيف أعباء عدم استقرار علاقتها بدول الجوار أو الآتية من التدخل الأجنبي. ويساعد غياب التقاليد الديبلوماسية والبروتوكول على تسهيل تحرّكات المسؤولين، فخلال السنوات الماضية، شهدت وزارة الخارجية تعيينات كثيفة أطاحت معايير الحوكمة الإدارية والاعتبارات السياسية.
وفي ظل اختلاف الرواية، تنوّعت ردود الفعل الرسمية والشعبية على تأكيد المنقوش مسؤولية حكومة الوحدة. فعلى مستوى تحرّك الحكومتين، فإنه بينما ذهبت حكومة شرق ليبيا، برئاسة أسامة حمّاد، إلى تصنيف الاتصال مع إسرائيل مخالفة قانونية، اتجهت حكومة الوحدة إلى اتخاذ تدابير إضافية لتأمين المدن الرئيسية، كان نتيجتها، حماية مقرّات العاصمة والسيطرة على مصفاة النفط في مدينة الزاوية، لتكشف عن مرونة تحرّك القوات ما بين مدن الزاوية ومصراتة وطرابلس، وهي أساليب التحرّك نفسها منذ عملية “فجر ليبيا” في 2014.
وعلى مستوى الجهة التشريعية، في 2023، اتخذ مجلس النواب عدّة قرارات لحصار حكومة طرابلس، أهمها دعم التظاهر في المدن، تأكيد سحب الثقة من حكومة الوحدة، تثبيت مشروعية حكومة الشرق وحرمان المشاركين في اللقاء من الترشّح للانتخابات، وفي الاتجاه نفسه، تشدّد مجلس الدولة، في الثامن من يناير/ كانون الثاني الجاري، في تصنيف محاولة التطبيع بالخيانة العظمى وانحرافا عن الثوابت الوطنية والدينية ومساعدة الاحتلال في تقويض الحقوق الفلسطينية.
على الرغم من كثافة العدوان على غزّة، انخفض مستوى احتجاج الليبيين على تطبيع الحكومة عمَّا كان عليه في 2023
بشكل عام، لم تكن مواقف السلطات العامة واضحةً في التعامل مع تجاوز القانون والخرق الثقافي لقيم المجتمع. فقد اقتصر خطاب كل المؤسسات على توجيه اللوم دون الارتقاء للمحاسبة أو المحاكمة، حتى فقدت قرارات البرلمان طريقها للتنفيذ لفك الخلاف حول المسؤولية القانونية أو تقديم تبرير متماسك للتواصل مع الحكومة الإسرائيلية. وهو ما يمكن تفسيره في أن حالة المؤسّسية غير كافية لعقد جدول للمراجعة وتطبيق القانون، وخصوصاً مع تنامي فكرة التواصل مع إسرائيل لدى بعض الهيئات رغبة في تعزيز مكانتها في ليبيا. ولذلك، انحسر الاهتمام بمتابعة قرار الحكومة رقم 368 لسنة 2023، بوقف وزيرة الخارجية، وليس عزلها، وتشكيل لجنة تحقيق، لم تزاول عملها.
على أي حال، تتحرّك السياسة في ليبيا تحت مظلة الإجماع على رفض التطبيع مع إسرائيل. يُوضح استطلاع المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في عام 2023 رفض 96% من الليبيين الاعتراف بدولة الاحتلال أو التطبيع معها لقدرة الكيانات المدنية على حشد الرأي العام. وفي هذا السياق، يقوم المفتي، الصادق الغرياني، وبعض الأحزاب السياسية بدور مباشر في توجيه الجماهير.
وقد صاغت دار الافتاء موقفها تطبيع وزارة الخارجية في الحالتين على نحوٍ مغاير، فمع شيوع أخبار الاجتماع، في 2023، أسست موقفها على المسؤولية التضامنية للحكومة ووجوب مساءلتها مجتمعة، غير أن رأي المفتي تجاهل هذه القاعدة مع سرد نجلاء المنقوش رواية مختلفة لمجريات الاجتماع، فقد ذهب إلى الفصل ما بين المسؤوليات، ليصل في تحليل فقهي إلى حصر المخالفة في وزيرة الخارجية، استناداً إلى قاعدة التفريق بين المُسبب (رئيس الوزراء) والمُباشر (وزيرة الخارجية)، بطريقة لا تأخذ في الاعتبار طبيعة العلاقات الآمرة داخل الدوائر الحكومية والمسؤولية المشتركة، وليست من الشؤون الخاصة غير المترابطة المسؤولية. جاء هذا الاجتهاد بعد تَجنب المفتي إبداء الرأي في إيضاحات المنقوش، ليصل، في نهاية التأويل، إلى موقف دفاعي، انتقد فيه المظاهرات من منظور عدم جواز الخروج على ولاة الأمر، في خروجٍ واضح عن المرجعية الفقهية في ليبيا للمدرسة المدخلية المخالفة للمالكية.
لم تشهد ليبيا زخماً كافياً لتغيير الوضع القائم، فقد توزّعت انتقادات التطبيع على الحكومتين، لتظهر مصراتة وطرابلس في صورة مُنقسمة
وفي هذا السياق، شكلت بيانات (ومواقف) حركات الإسلام السياسي، القريبة من حكومة الوحدة، دلالة مهمة على اتساق الرأي تجاه هوية الدولة واحتمال تحويل السلوك إلى قوة تأثير. في الحالتين، تجاوب الإسلاميون مع الدعوة إلى المظاهرات من دون اتخاذ موقفٍ حاسم من الحكومة. في المرة الأولى، حيث شكلت حالات التظاهر والاحتجاج سمة مشتركة من دون البدء في اتخاذ إجراءات قانونية. فعلى مستوى البلاد، انتشرت الاحتجاجات الاعتيادية في المدن الرئيسية. ولمحلية الكيانات السياسية، اتسم احتجاج الليبيين بالمناطقية. وتمثل مدينة مصراتة واحدة من مؤشرات قوة الاحتجاج أو ضعفه، حيث ينتشر نفوذها في الحكومة والمكونات العسكرية. وحَمَّلت تلك الأحزاب الوزيرة المسؤولية، فيما تجنبت الحديث عن مسؤولية الحكومة، وفي المرة الثانية، على الرغم من وضوح مسؤولية الحكومة، لم تُشر المظاهرات إلى تحميل رئيس الوزراء المسؤولية، واكتفت بالحديث عن طلب التحقيق مع الحكومة من دون الحديث عن إقالتها. وهنا، يعكس تغير مواقف الإسلاميين بين الحالتين وجود رغبة في الحفاظ على الحد الأدنى من التساند المتبادل في المنطقة الغربية لمواجهة حكومة الشرق.
ومن اللافت أنه على الرغم من كثافة العدوان على غزّة، انخفض مستوى احتجاج الليبيين على تطبيع الحكومة عمَّا كان عليه في 2023. لا يفسّر اهتزاز ثورية الإسلاميين ضعف الاستجابة للاحتجاج، حيث تظهر أولوياتٌ أخرى، كان أهمها القلق من إضعاف حكومة الوحدة لصالح خليفة حفتر، وأكثر انشغالاً بالثورة على حكومات مصر، السعودية والإمارات.
على أي حال، لا تساعد هذه التغيّرات على تطوير مرجعية المفتي لمجموعات الإسلام السياسي، وخصوصاً مع اهتزاز المنظور الثوري في مقاومة اختلال السلطة والجنوح لتأويل قريب من الرضا بالوضع القائم، ما يزيد من احتمال ضعف دور دار الإفتاء في تشكيل الوعي الأيديولوجي. وعلى الرغم من سهولة اصطفاف إسلاميي ليبيا وراء فتاوى رفض التطبيع، يرجع ضعف الاحتجاج إلى عدة عوامل؛ يأتي في مقدّمتها تردّد المفتي في نقض دور حكومة طرابلس وكثرة داعميها، كما ساهمت شدّة الخلاف مع حكومة الشرق في توقف الحراك.
اقتصر نشاط الأحزاب والمنظمات الحقوقية على إصدار البيانات والمشاركة في احتجاجات عَرَضية لا تحمل ميزة التأثير على سلوك المؤسّسات
على مدى الحادثين، لم تشهد ليبيا زخماً كافياً لتغيير الوضع القائم، فقد توزّعت انتقادات التطبيع على الحكومتين، لتظهر مصراتة وطرابلس في صورة مُنقسمة، كما لم يعمل الاحتجاج في المدن الأخرى على ترجيح وجهة الاحتجاج الاجتماعي، ما يعكس مرور المجتمع بحالة إعياء، يعجز فيها عن تحريك أي مسار سلمي أو حسم عسكري.
تتمثّل واحدة من مظاهر الإعياء في انشغال كل منطقة بتحميل السلطة في المنطقة الأخرى المسؤولية والمطالبة بإسقاطها. فمن جهةٍ رفعت مظاهرات المنطقة الشرقية شعارات إسقاط حكومة الوحدة ومحاسبتها، وهي مطالب قوى في الغرب الليبي بإسقاط حكومة بنغازي لاتهامها بالتطبيع. ومن جهة ثانية، يظهر اتجاه ضد بقاء الحكومتين، ويخلص إلى ضرورة إطاحتهما واستبدالهما بحكومة منتخبة أو لتجديد الثورة مرّة أخرى.
وبالإضافة إلى تأثير انقسام السلطة، ترجع حالة الإعياء إلى الظواهر التي تشكلت خلال العقد الماضي، وكان من أهمها الانقسام على أرضية السلاح والسيطرة على مؤسّسات الدولة والارتباط بدوائر النفوذ الأجنبية. لتنعكس هذه السمات في شدّة الرغبة في الإبقاء على الوضع الراهن وتعميق الخلاف حول مناقشات إنهاء المرحلة الانتقالية. في ظل هذه البيئة، ارتهن نفوذ الإسلاميين والمسلحين لحكومة الغرب، لتتكوّن مصالح مشتركة تدعم بقاء الحكومة.
وبشكل عام، تفتقر الكيانات المدنية للحيوية السياسية، فهي أكثر تعبيراً عن أنشطة افتراضية، أخفقت في تحويلها قوة واقعية، فقد اقتصر نشاط الأحزاب والمنظمات الحقوقية على إصدار البيانات والمشاركة في احتجاجات عَرَضية لا تحمل ميزة التأثير على سلوك المؤسّسات، لتشكّل هذه الملامح حالة عجز سياسي عن إكراه الحكومة على مراجعة موقفها وبدء تحقيقٍ في مخالفة قانون منع التطبيع. فمع انهيار الدولة، افتقرت الحكومات والمجتمع لقوة المحاسبة أو الردع، ليتحلّل الالتزام الأخلاقي بوقف التطبيع ولتعلو دوائر النفوذ على سيادة القانون.
المصدر: العربي الجديد