مهند ذويب
أكتُبُ لا لأقولَ شيئاً. غيرَ أنّها مرّت في رأسي، صباحَ 19 يناير/ كانون الثاني الجاري، آلافُ المشاهدِ والصور والأصواتِ والأسماءِ التي نَجَت من أنْ تصبحَ أرقاماً، ومرَّ شريطٌ طويلٌ للحظاتِ كنّا نتسمَّرُ فيها أمامَ الشاشات، ونفيضُ بالغضبِ العاجِز والمُرتجف، ونعيدُ تذكُّرَ خليل حاوي الذي من بيروت “يا لثقلِ هذا العار… هل حمّلتُهُ وحدي؟”، ومرَّت آلافُ الأفكارِ مرّة أخرى؛ كيفَ تجتمعُ الشهادة والمُشاهدة في وطنٍ واحد؟، كيفَ يبدعُ العالمُ في لومِ الضحايا أنّهم لم يستطيعوا الموتَ بطريقةٍ أقلَّ ضجيجًا تحتَ “بساطير” الاحتلال؟ كيفَ استطعنا المواصلة؟ كيفَ هذا العالَمُ لم يطلُبُ استقالةً جماعيّة من دورِهِ (المسرحيّ) في السعي والمواصلة؛ كانَ سقطَ وجهُ قابيل (قايين).. حينَ افتتحَ ماراثونَ القتلِ في الأرض، وكانَ دمُ هابيل صارخاً إلى الله من التراب؟
مرّت أشياءُ كثيرة، وأكثر منها على الجالسينَ تحتَ الإبادة واحتمالاتِ الموتِ والجوع، تركت أثرها عميقاً فينا، كأنّ لديَّ (لدينا) أشياء مكسَّرة في الداخِل؛ ألواح زجاج، كؤوس، أصوات حادّة ذات أنصالٍ، صُور مثل مسامير دقيقة، حجارة مبعثرة ودم، أشياء مُكسّرة وتُصدِرُ أصواتاً، وتجرحُ قلوبنا وتعطبُها.. حينَ نفكِّر. مرّت أشياءُ كثيرة، واختبارات قاسية للإنسان لن يكونَ سهلاً تجاوزها، خلّفت خساراتٍ فادحة وشعوراً بالخذلانِ وانتفاء المعنى، وسيكونُ جنوناً ألّا نلتفتَ إليها، مثلما هو جنونٌ ألّا يفتحَ الفلسطينيونَ مراجعةً ومكاشفةً ذاتيّة قاسية فيما بعد.
إذن؛ دخلَ وقفُ إطلاقِ النار حيّز التنفيذ، ودخلَ معه جدلُ القاعدينَ على الفُرجة حولَ النصر والهزيمة، فوجدتُني أعودُ إلى كلمةٍ ألقاها محمود درويش في جامعة بيرزيت، غداة الاحتفال بالانسحاب الإسرائيليّ عام 2000 من جنوب لبنان، وأقتبسُ والكلامُ له: “ليس هنالك نصر نهائيّ ولا هزيمة نهائية، فهذان المفهومان يتقنان لعبة التناوب والاحترام المتبادل…، المهمُّ هو: ماذا يفعل المنتصر بالنصر، وماذا يصنع المهزوم بالهزيمة. ولعلّ بعض الهزائم صالحٌ لبلوغ البشر مرحلة النضج المعنوي والأخلاقي، ولعلّ بعض الانتصارات أخطر على البعض من الهزيمة؛ لأنّه يعفيه من ضرورة الإصغاء إلى صوت الزمن”.
لم نرَ الغزّيين يخرجونَ مطالبينَ بغفرانٍ جماعيّ أو استسلامٍ، ولم نرَ إلّا الغزّيين يحاولونَ حماية الإنسانِ فيهم
أجدُ أنّهما، النصرُ والهزيمة، لا يتناوبانِ فقط، بل إنّهما يخضعانِ وبشكلٍ أساسيّ لزاوية النّظر، وأعيدُ أنظُرُ من جديد: صباحَ السابع من أكتوبر (2023) كانَ مقاومونَ فلسطينيونَ يسحبونَ مجنّدي الاحتلال من داخلِ دبّابةٍ على حدودِ غزّة. لعلّ هذه هي اللحظة المناسبة التي أبدأ منها لأنّها لم تتكرّر بشكلٍ عكسي؛ فعلى مدار أيّام الإبادة الـ 470 لم نرَ جندياً إسرائيلياً يسحبُ ويجرُّ مقاتلاً فلسطينياً، ولم نرَ إلّا طائراتٍ تقصفُ المدنيين والأطفال، ولم نرَ إلّا جنوداً خائفينَ من جثمانِ قائدٍ فلسطينيّ قاتل حتّى النّفَسِ الأخير، ولم نرَ إلّا مظاهرَ بطولةٍ “مُعجِزة” بإمكاناتٍ أقلّ من بدائيّة تواجه جيشاً مدجّجاً بالدروع ومسلّحاً بـ”فائض قوّة جشعة”، ولم نرَ الغزّيين يخرجونَ مطالبينَ بغفرانٍ جماعيّ أو استسلامٍ، ولم نرَ إلّا الغزّيين يحاولونَ حماية الإنسانِ فيهم؛ فيتعاطفونَ ويتعاضدونَ ضدّ الموتِ والجوعِ والتوحش الذي باسم الحضارة، ويتجاسرونَ فوقَ قدرة البشريّ، وقد رأيناهم الأحد من مساحةٍ جغرافيّة شبه مدمّرة بالكامل “يعودون” إلى الشمال، ويبادلونَ الأسرى، ويأملونَ بناءَ غزّة من جديد، رغمَ غصّتهم على آلاف الشهداء والجرحى والمفقودين.
لذا؛ ثمّة انتصارات هي للغزّيين وحدهم، مقاتلينَ ومدنيين، أباءَ وأمّهاتٍ وممرّضينَ وأطباءَ وصحافيين. وثمّة انتصاراتٌ هي لفكرة المُقاومة مستمرّة الجدوى، متعدّدة الأشكال، مقابلَ خسائر (وليسَ هزائم) كبيرة وفادحة نتقاسمُها كلّنا؛ فلسطينيين وعرباً وبشراً. ليسَت هذه لحظةً شعريّة بما يكفي للشّعر، لكنّها لحظة تختلطُ فيها المشاعر وتتداخل، وترتجفُ فيها الأيادي والقلوب، لحظةٌ تنتصرُ فيها غزّة على الدنيا.
المصدر: العربي الجديد