دلال البزري
تعجّب أبناء منطقتنا في المرّة الماضية من قلّة الفرق بين جماهيرنا “الجاهلة”، “الساذجة”، المُصفِّقة لأيّ سياسي يقوى على بلوغ القمّة مهما كانت لغته أو هندامه أو أخلاقه، والجماهير الترامبية التي تختاره رئيساً، وهو يتحلّى بكل مواصفات الرجل الذي لا يليق به غير السجن. يتابع أبناء منطقتنا: لا مآخذ على جماهيرنا المضلَّلة، التي تهلّل للأفّاقين والديماغوجيين، ففي أقوى ديمقراطية في العالم، أميركا، ثمّة أكثر من 70 مليون مواطن يرون أن ترامب تليق به رئاستهم، فلا مآخذ على جماهيرنا، ولا عتب عليهم.
وفي يوم تنصيب ترامب، ترسّخ هذا الانطباع، واغتنى بجماهير أنيقة. المدعوّون إليه هم من نخبة أميركا وبعض العالم. في رأس هذه النخبة، عُتاة التكنولوجيا، “ميتا” و”غوغل” و”أمازون” و”تسلا”. جميعهم قطعوا خطابه أكثر من عشر مرّات ليقفوا ويصفّقوا بحرارة لعبارات جوفاء. كانوا مثل جماهير الطوائف، يكاد لسانهم يصرخ “لبيك يا ترامب! لبيك!”. لم يخالف هذه الجماهير المغرقة في وسامتها، غير شخصيتَين، النائب اليساري بيرني ساندر، الذي بقي جالساً عابساً، وسط غابة المصفّقين الواقفين السعداء، وهيلاري كلنتون، التي لم تتمالك نفسها فأصيبت بنوبة ضحك، سارع زوجها بيل إلى إيقافها، منعاً للفضيحة. ضحكت هيلاري عند المقطع الوحيد الذي ذكر فيه ترامب الصين؛ بأن لا حقّ لها باستغلال قناة بنما، وبأنّ على أميركا استعادته، كأنه بذلك يمرّر (من دون قصد أو مرغماً) أن المحور الضمني لتفكيره كلّه هو الصين، وأنه ينكر ذلك عبر النفخ بعضلاته وصوته ونبرته، وأن الحديث عن استعادة قناة بنما أرغمه على ذكر الصين، عَرَضاً.
إذاً، ماذا في هذا الخطاب؟ فكرة وحيدة بعيارات مختلفة، يردّدها من بدايته: إن “العصر الذهبي” لأميركا “يبدأ الآن”. وإن أميركا ستزدهر و”تعود محترمةً من العالم بأسره”، وسوف “تحسدنا الأمم” كلّها، وستكون “أميركا في الصف الأول”، و”نستعيد سيادتنا” و”أولويتنا المطلقة” ستكون “خلق أمّة معتزّة بنفسها”، وقريباً ستكون “أكبر، أقوى، وأكثر استثنائية من أيّ وقت مضى”، أمّا “التحديات”، فسوف “تمحيها تلك الوثبة العظيمة لأميركا”، وبدءاً من الآن، أي منذ لحظة تنصيبه، “انتهى تراجع أميركا”. ويروي أنه منذ بضعة أشهر، خلال احتفال انتخابي، “أصابني مجرم بطلقة رصاص اخترقت أذني”، وإن “حياتي أُنقِذت لسبب… الله هو الذي أنقذني من أجل أن تعود أميركا عظيمةً كما كانت”؛ وهنا كان أطول تصفيق وقوفاً. ثمّ تكلمّ عن سلام ينشده: “أنا رجل سلام” و”مرشّح لجائزة نوبل”، كما تروّج أوساطه. وفي اليوم التالي، وفي ضوء هذا الخطاب، أصدر ترامب مراسيم، يهمنا منها الانسحاب من منظّمة الصحّة العالمية، ومن اتفاقية باريس للمناخ، والعفو عن مهاجمي الكابيتول (2021) من أنصاره، وإعادة كوبا إلى صفة الدولة “الداعمة للإرهاب”، وإعلان حالة الطوارئ عند الحدود مع المكسيك، وإلغاء عقوبات إدارة جو بايدن على المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية.
يضم ترامب إلى صفوفه “مشايخ” اللعب على العقول، أوليغارشية التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي
ولا يمرّ يوم منذ هذا الخطاب العتيد، إلا ويسرع ترامب إلى إصدار مراسيم تؤكّد فحواه، وتضع أميركا (كما يعتقد) في سكّة العائدة “أقوى ممّا كانت”. لا تريد كاتبة هذه السطور أن تناقش التبعات الخطيرة لسياسته، فالحذر أسلم من التوقّع مع هذا الرجل المتقلّب المزاجي، الذي لا معايير لديه غير ما يربحه من صفقات، فما يشغل البال الآن هو تلك القوة الضخمة التي حملته إلى الرئاسة رغم شوائبه، وهو قد يطير عقله إذا قلت له إن الصين تتقدّم فعلاً على أميركا بكذا وكيت، وبأنها صاعدة بلا ريب، وبأن مشاريعها تهدّد مشاريع أميركا… إلخ، إذ إن قوته الانتخابية كلّها قائمة على ملاحظة أن أميركا تراجعت، وأنها لا تستحق ذلك، وأن ما على أميركا سوى الاعتماد على ترامب؛ فتكون الشعارات الجذّابة مطيّةً لتحويل أميركا إلى حكمه المطلق بدلاً من الفوضى، بمعاونة عباقرة التكنولوجيا، أصحاب المليارات.
قناة بنما حضرت في خطابه. ولكنّ عينه أيضاً على أراض أخرى. قالها في لحظة تجلٍّ قبيل تنصيبه: على كندا أن تكون الولاية الواحدة والخمسين لأميركا، وعلى الدنمارك أن “تبيعه” جزيرة غرينلاند. وفي خياله، أن الاستحواذ على هذه الأراضي سيطوّق روسيا واليابان، ويوسّع بذلك من مساحات مواجهته للصين، ويوثّقها. هذا كلّه تصفق له النخبة المنتفعة، والجماهير المؤمنة، صاحبة الإنجاز الديمقراطي بصعوده إلى الرئاسة. إنه يكفل لها عودةً إلى ماضيها القريب من بحبوحة وسعادة، بعدما حلّت عليها نوائب البطالة والتهميش وقلّة الاعتبار، بسبب الصين، ضمناً وعلناً، وهو وحده، ترامب قادر أن يردّها على أعقابها.
حسناً. هذا ما يُبدّد قليلاً ضغط السؤال الأول: لماذا نحن مبتلون بجماهير تصدّق بأن المنافقين يرفعون قيمة أمتهم أمام غيرهم من الأمم؟… لا فرق بين ترامب و”داعش”، سوى في الوقت، فالله أرسلهما لينقذونا من تكبّر الأمم الأخرى، ولديهما من أجل ذلك إمكانات؛ داعش بالثقل المشهدي المخيف، وترامب بنوع من القتل، يبدو في ولايته الثانية أكثر “تركيزاً” من الأولى. اليوم يضم إلى صفوفه “مشايخ” اللعب على العقول، أوليغارشية التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي؛ هؤلاء المتجسّسين علينا، العارفين أذواقنا وتنقّلاتنا، القادرين على صناعة ما نعتقد أنّنا نعرفه، نفكّر فيه، وكيف نفكر فيه. فهل تنجح الصفقة بين الطرفَين، ترامب والأوليغارك، فينتفعان امتيازاتٍ ومواقع وسلطاتٍ في معركتهم الخاسرة ضدّ الصين، وتتحوّل أميركا ساعتها إمبراطوريةَ موزٍ أو ساحة حرب أهلية، والمزيد من الجماهير المؤمنة؟
المصدر: العربي الجديد