عمار ديوب
اعتبر أهل حمص، والسوريون، أن مدينتهم عاصمة لثورة 2011. وفي الأشهر الأولى ذاك العام، حاولت المدينة استيعاب أهلها كافّة في الثورة، فاشترك السُّنّة أولاً، والمسيحيون والعلويون بأعداد قليلة. أخاف الأمر النظام، فعمل لحفر الخنادق الطائفية عبر وسائل إعلامه المساندة له، والدفع بتأطير أهالي المدينة طائفياً: الثورة يقوم بها السُّنّة، والعلويون والمسيحيون يقفون مع النظام. واقعياً، ونتيجة القمع والقتل والترهيب، وفصل الأحياء بحواجز، صمتت الأحياء ذات الأغلبية السُّنّية، وصمت أغلب المسيحيين، وهناك من رفض ذلك من العلويين، وتواصل مع الأحياء الثائرة. دفع النظام الشبّيحة من العلويين لمحاصرتهم والتضييق عليهم، بل وطرد المعارضين من بيوتهم، وأُرهِب بقية العلويين من التواصل مع الثوار. إمعاناً في التطييف، دفع النظام مجموعات من الشبّيحة (وهم شريحة صغيرة من الموتورين طائفياً أو أصحاب السوابق، ومعظمهم ليسوا من المدينة ولا يمثّلون العلويين) لارتكاب مجازر طائفية في العديد من أحياء حمص ككرم الزيتون، وفي بلدة الحولة غرب حمص، وسرّب (قاصداً) فيديوهات لتلك الممارسات، وبهدفٍ وحيد هو إرهاب بقية العلويين من محاولة التمرّد على النظام، وإظهارهم جميعاً قد ارتكبوا تلك المجازر، وبالتالي، إجبارهم على الصمت، وتأييد النظام بشكل أعمى، ودفع الشباب إلى الحرب “المُقدَّسة” ضدّ السُّنّة. فَهمت الأحياء السُّنّية الثائرة الرسالة على هذا النحو: إنها حرب العلويين ضدّهم، وهناك فئات طائفية سُنّية جُيِّشت في هذا الاتجاه، ومنها نُخَب معارضة في الخارج. هذا بالضبط ما أراده النظام. ظلّت مجموعات كبيرة من الثوار تعي حقيقة أن عائلة الأسد وأجهزته الاستخباراتية هي خلف هذا التجييش، والعلويون ليسوا جميعهم قتلة، والقتلة محدّدون، وساد الخوف والرعب لدى العلويين من انتقام النظام في حال التمرّد، ومن انتقام الثوار في حالة الانتصار، فصمتت الأغلبية عن انتهاكات النظام حينها. هنا يجب ملاحظة الفارق بين مَن صمت وشعر بالرعب ممّا يحدث ومَن مارس القتل والمجازر، والتطييف كذلك.
رحل النظام منذ أقلّ من شهرين، ودخلت قوات الإدارة الجديدة إلى مدينة حمص، ولم تحدُث عمليات انتقامية حينها، وكذلك في مختلف المناطق التي مرّت بها بدءاً بحلب، أعطى هذا (رغم الخوف الشديد من الانتقام) حالة من الرضا عن الإدارة، وساد الانطباع بأن سيول الدم لن تجرِي في المدينة. ويُشار هنا إلى أن كثيراً من العلويين خاصّة تركوا المدينة قبل دخول قوات الإدارة الجديدة، وبعد أيام عادت الأغلبية إليها، غادروا خوفاً من الانتقام وحالة الهلع التي شعروا بها. لم تحدُث انتهاكات تُذكر في الشهر الأول، ثم بعد أن بدأت عمليات التمشيط والتفتيش للأحياء في حمص والقرى التي فيها أكثرية علوية وشيعية، بدأ الحديث يتصاعد عن الانتهاكات، بدءاً من الشتائم الطائفية ضدّ العلويين والشيعة، والضرب بالكرابيج، بعد تجميع الذكور في الساحات، وتحطيم بعض أثاث المنازل، وسرقة الأموال والذهب، وتعنيف النساء. ظلّت الانتهاكات محدودة، ولم تعترف الإدارة الجديدة بها، وادّعت أنها عناصر أو فصائل صغيرة، تعود أصولُها إلى المدينة ذاتها، تعرّضت أسرها في 2011 لمجازر، وهناك ادعاءات بأن من قام بها هي فصائل من الجيش الوطني، المعروفة بعدم الانضباط، وبالقيام بممارسات كهذه. لم تقاوم الأحياء غير السُّنّية ولا القرى العلوية والشيعية، ورمى الجميع السلاح، وأجرى أغلبية الضباط والعناصر الأمنية تسوياتٍ مع المراكز الأمنية للإدارة الجديدة في مدينة حمص، واعتُقِل كثير من الضباط والجنود في سجون حمص وحماه، وجميعهم من رتب عسكرية منخفضة، بينما هرب كبار الضبّاط خارج البلاد، ويُفرَج تدرجياً عن الذين انتهى التحقيق معهم، ببطء شديد، ومن دون معرفة كيف يجري التحقيق، وهل هناك محاكمات، وعلى أي أسس قانونية من دون إشراك المحامين للدفاع عنهم؟
ما حدث من انتهاكات وقتل ومجازر وقمع في 2011 وما بعدها يقتضي تشكيل هيئة مختصّة بالعدالة الانتقالية من الخبرات السورية، والاستفادة من تجارب في دول مماثلة
في الأيام الماضية، وعكس ما جرى في المدينة وقراها الشرقية، التي فيها علويون وشيعة، حدثت انتهاكات وقتل في أكثر من بلدة في قرى غرب حمص، وكادت الأوضاع تنفجّر في بلدة فاحل، التي قُتل فيها 15 شخصاً، وغُيّب قسراً قرابة 43، وفي بلدات أخرى قتل 13 شخصاً، وهناك عمليات خطف وقتل تحدُث في أكثر من منطقة في سورية، وليست خاصّة بالعلويين فقط. تدّعي الإدارة الجديدة، كالعادة، أن تلك الانتهاكات كافّة حالات فردية، ومن فصائل وأفراد غير منضبطين في إطار سياساتها، ومن عناصر قُتل أهلها خلال الثورة، فيما طاولت هذه الانتهاكات شخصيات من المعارضين للنظام السابق، وشباباً كانوا أطفالاً في ذلك العام، وجامعيين ونساء.
سرد ما سبق مفيد في فهم ما يحصل في حمص، ولماذا يحصل، وقد يحصل في مدينة أخرى كبانياس مثلاً أو اللاذقية أو مناطق أخرى، حدثت فيها بعض مجازر أو قتل طائفي في 2011، وبعده. إن الآلية التي سقط بها النظام السابق، وسيطرة الإدارة الجديدة على سورية، من دون تسليم من نظام لنظام جديد، أدّت إلى حالة من الفوضى وعدم الاستقرار الأمني، ولكنّها لم تتّجه نحو مواجهات عسكرية، وهذا يعني أن الفئات العسكرية والأمنية التابعة للنظام القديم لا تريد المواجهات وتفضّل الانخراط في الدولة الجديدة، واتجهت أغلبيّتها نحو إجراء التسوية مع المراكز الأمنية للإدارة. كان على الإدارة الجديدة إعلان أسماء المتورّطين بالدم والقتل والمجازر في حمص وسواها، وعبر الإعلامين، العالمي والسوري، واعتقالهم وتقديمهم للمحاكم أو ملاحقتهم دولياً. لم يحصل هذا، وهرب كبار الضباط والمجرمون إلى خارج البلاد. وقد أدّى عدم الإعلان إلى سيادة نوع من العدالة الانتقامية، وهي جزء من الانتهاكات المشار إليها أعلاه.
التأخّر بتطبيق العدالة الانتقالية في سورية سيقود إلى الاستمرار في أشكال من العدالة الانتقامية
ما حدث من انتهاكات وقتل ومجازر وقمع في 2011 وما بعدها يقتضي تشكيل هيئة مختصّة بالعدالة الانتقالية من الخبرات السورية، والاستفادة من تجارب في دول مماثلة، وجمع البيانات بدقّة، وإقامة الدعاوى، والمحاسبة، بما يشمل التعويض للأهالي، وجبر الضرر، وإقامة النصب، وإحياء الذكرى. يؤدّي هذا الطريق إلى السلم الأهلي بين أحياء المدينة ومحيطها من القرى، وفي سورية كلّها، وصولاً إلى المصالحة المجتمعية. التأخر بتطبيق العدالة الانتقالية يقود إلى الاستمرار في أشكال من العدالة الانتقامية، ويرافق ذلك سياسات غير متطابقة مع حاجات السوريين في هذه اللحظة، كعدم إشراك القوى السياسية والفعاليات في إدارة شؤون الدولة، واحتكارها من شخصيات تابعة للإدارة الجديدة، أو إشراك شخصيات لا وزن مجتمعي أو سياسي لها، كإعادة وزيرة الثقافة في حكومة النظام البائد إلى منصبها، والتأخّر بإعلان اللجان التحضيرية للمؤتمر الوطني في المدن السورية كلّها، وعدم فتح النقاش الواسع عن كيفية تأسيس النظام السياسي مستقبلاً. ذلك كلّه قد يؤدّي إلى تدخّل دولي، يستفيد من التأزّمات الداخلية، ويدفع سورية نحو الفوضى أو الاقتتال الطائفي والفصائلي، وبين قوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الجديدة.
تجتهد المدن حالياً في البحث عن طرق للسلم الأهلي، وتحاول مختلف الفعاليات غير المرتبطة بالإدارة عقدَ الندوات والنقاشات حول العدالة الانتقالية والمصالحة المجتمعية. الإدارة الجديدة معنية بالانفتاح نحو هذه المحاولات، وبذلك تساهم في تدعيم سلطتها، وإغلاق الأبواب أمام الضغوط الخارجية بحجّة تلك الانتهاكات، وحماية للأقليات، وسواه كثير.
المصدر: العربي الجديد