أسامة أبو ارشيد
قال دونالد ترامب في المؤتمر الصحافي الذي جمعه بالعاهل الأردني عبد الله الثاني (الثلاثاء 11 فبراير/ شباط 2025) في البيت الأبيض، مخاطباً صحافياً، “هل تعرف من هو المتنمر؟ لقد علمتني الحياة أن المتنمر هو الشخص الضعيف”. كان ترامب يحيل بذلك على حركة حماس، حسب رأيه، إلا أن وسائل إعلام أميركية أغفلت “حماس” في تحليلها لتصريح ترامب، وأسقطت مقولته عليه، إذ إنه معروف متنمّراً، وبالتالي، يقول الإسقاط، إنه شخص ضعيف ومهزوز ومنعدم الثقة، ولذلك يتنمّر.
موضوعياً، لا يمكن لمن يتابع ترامب أن يختلف مع مثل هذا الإسقاط وهذا التحليل، الذي تجلَّى بكل وضوح خلال لقائه بالملك عبد الله الثاني، إذ أخذ أمام كاميرات التلفزة يتحدّث نيابةً عن الأردن، وعن مصر، مفترضاً أنهما يتلقّيان الأوامر منه لتوطين أكثر من مليوني فلسطيني من قطاع غزّة في بلديهما، حتى يتسنى لخياله المريض أن يطوّر غزّة عقارياً. كانت تلك لحظةً فارقةً لرئيس مسكون بالعنصرية والسادية والكراهية والإمبريالية والتنمّر والانحطاط الأخلاقي. كما كانت لحظةً كاشفةً لاختلال العلاقات العربية الأميركية، وغياب مقاربة أمنية جمعِيّة عربية، إذ إن ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو يتحدّثان بكل صلافة ووقاحة عن تهجير الفلسطينيين من قطاع غزّة والضفة الغربية، وتوطينهم في دول عربية أخرى، بما في ذلك السعودية، حسب نتنياهو، ثمّ تولي دول الخليج العربي إعادة إعمار غزّة لكي تهنأ أميركا وإسرائيل بسواحلها “الجميلة”. وإذا لم يكن التنمّر وقلّة الاحترام، اللذَان أبداهما ترامب خلال استضافته الملك، ودفعا الرئيس المصري عبد الفتّاح السيسي إلى إلغاء زيارته المرتقبة إلى واشنطن، جرس إنذار لتنبيه العرب لما يراد بهم، وحقيقة أن إسرائيل تمثّل تحدّياً وجودياً للكلّ العربي، وليس للفلسطينيين فقط، فلا أعرف ما الذي يمكن أن ينبّههم بعد ذلك.
إذا حدث وهُزم الفلسطينيون (لا سمح الله!)، فإن السدّ المنيع الذي يحول بين إسرائيل وتحقيق أهدافها سيكون قد انهار، وحينها سيجرف الطوفان الدول العربية كلها
لنضع تلك المسلّمات جانباً، ولنفتح قوساً آخر. ثمّة حكمة سائدة تقول إن التشرذم العربي هو تشرذم أفقي لا عمودي، بمعنى أنه على مستوى الأنظمة والحكومات، لا على مستوى الشعوب. هذا صحيح إلى حدّ ما، لكنه (للأسف!) لا يؤطّر المشهد بكلّيته. وبعيداً من الخوض في تفاصيل وخلفيات كثيرة، فإن ذلك الانفعال المنفلت قيمياً وأخلاقياً بين بعض الأردنيين وبعض الفلسطينيين، وتوزيع اتهامات الخيانة ونكران الجميل بين بعضهم بعضاً، يمثّل أعظم هدية يقدّمونها لمشروع إلغاء فلسطين والأردن معاً. مثل ذلك الجدال المنفعل وغير المضبوط يدلّ على سوء خلق، فأيّ عنصري هو فاقد للأخلاق ابتداءً، كما أنه يدل على سفاهة وحماقة. ومعلوم أن الأعداء لا يعتمدون في حملاتهم وحروبهم ومؤامراتهم على الجنود والسلاح والعملاء فقط، بل إنهم يستفيدون من الحمقى والسفهاء والأذى الذي يحدثونه. بالنسبة لإسرائيل، هي لا تريد فلسطين فحسب، ولا الأردن وحدها فقط، هم يريدون المنطقة العربية كلّها، سواء عبر احتلال واستيطان كولونيالي مباشر، أو عبر التحكّم والتأثير فيها. لا ترى الإمبريالية الغربية والحركة الصهيونية فينا عرباً إلا شعوباً من الهمّل هائمة على وجهها. ومن ثمّ، فكلّنا في الهمِّ عرب، ومن لا يفهم ذلك، فقد قبل على نفسه أن يكون حصان طروادة من حيث يظن نفسه يحسن صنعاً.
هنا، لا بد أن يفهم العنصريون والسفهاء من كلا الطرفَين، وهم أقلّية لا أغلبية، ولكن أصواتهم عالية، أن الفلسطينيين والأردنيين كلهم ضحايا لا مجرمون. لا الفلسطيني اختار أن يُشرَّد من أرضه ويتحوّل لاجئاً، ولا الأردني اختار أن تكون بلاده في عين العاصفة. ولمن أحبّ الاستزادة، فقد كنت كتبت مقالاً في “العربي الجديد” بعنوان “الأردن في عين العاصفة مجدّداً” (22/11/2024). الحركة الصهيونية لا ترى في الأردن إلا وطناً بديلاً، حتى حين، وبعد أن تلتهم فلسطين وتهضمها، فإن الأردن سيكون تالياً، ذلك أن الأردن بالنسبة لها جزء من “الوطن القومي لليهود”، الذي جاء في وعد بلفور المشؤوم عام 1917. ومع ذلك، لا يزال بعض التفهة العنصريين، وللأسف بينهم بعض من يصفون أنفسهم “مثقّفين” من الجانبَين، يصرّون على خطاب “نحن وهم”. أيها الحمقى، كلنا واحد، وكلنا “نحن”. إذا حدث وهُزم الفلسطينيون (لا سمح الله!)، فإن السدّ المنيع الذي يحول بين إسرائيل وتحقيق أهدافها سيكون قد انهار، وحينها سيجرف الطوفان الدول العربية واحدةً تلو الأخرى، وأولها الأردن.
الأردن دولة صغيرة، محدودة الموارد، وهو في قلب مخطّطات محاولات إعادة تشكيل الشرق الأوسط الخبيثة
نعود إلى زيارة الملك واشنطن وقمّته مع ترامب. رغم وقاحة ترامب كلّها، وتنمّره، إلا أن الموضوعية تقتضي القول إن الملك لم يقبل بمشروعه للتطهير العرقي في قطاع غزّة، كما أن مصر لم تقبل بذلك، وثمّة شبه إجماع عربي على رفضه أيضاً. قد نختلف مع كثير من السياسات الأردنية والمصرية، لكن هذا لا يعني أن نتحلّل من الإنصاف، كما لا يعني أن نفتح معاركَ داخليةً في صفوفنا فنتسبّب بانهيار الحصن العربي. إن ما يقف في وجه تحقيق طموحات ترامب الإمبريالية وطموحات نتنياهو الصهيونية، هو صمود الشعب الفلسطيني أولاً، ثمّ الموقف المبدئي الذي نراه إلى الآن من مصر والأردن. مسألة الأسباب والخلفيات تغدو هامشيةً هنا، المهم أن ثمّة التقاء في الأهداف والمصالح العُليا للشعب الفلسطيني والأمة العربية.
مرّة أخرى، ليس دفاعاً عن أي موقف رسمي عربي، ولنا انتقادات كثيرة هنا، لكن الذين انتقدوا الملك واتهموه بالتنازل أمام ترامب جاوزوا الحقيقة. والذين توقّعوا من الملك أن يعيد الاتزان إلى اختلال العلاقات الأميركية العربية، يبيعون الوهم. الأردن دولة صغيرة، محدودة الموارد، وهو في قلب مخطّطات محاولات إعادة تشكيل الشرق الأوسط الخبيثة. لقد كان الملك خلال لقائه ترامب يبحر في خضمّ محيط هائج، وأحسب أنه أحسن إدارة الدفّة، والتملّص من موافقة ترامب على أفكاره المريضة، من دون أن يصطدم به مباشرة، ويستثير سخط رئيس مجنون يحكم القوة العالمية الأولى التي تمارس التنمّر على العالم كله. أيضاً، كانت إحالة الملك إلى ضرورة انتظار موقف عربي موحّد إجابة ذكية، وكلنا يتمنّى ألا يكتفي هذا الموقف برفض مخطّط ترامب الشيطاني، وإنما أن يقدم كذلك خطّةً عمليةً لإعادة إعمار قطاع غزّة وسكّانه فيه، لا خارجه.
بئس كل من يساهم في تمزيق هذا الجسد الواحد المنهك، وبئس كل من لا يزيد هذا الجسد إلا خبالاً، وبئس كل من يسمع لعنصري عديم التربية والأخلاق، وهو فوق هذا وذاك أحمق سفيه يخدم أهداف العدو من حيث لا يفهم ولا يريد.
المصدر: العربي الجديد