بسام مقداد
في أسوأ كوابيسه، لم يكن بوتين ليتوقع أن يتصدى رئيس أميركي لمهمة إنهاء حرب أعلنها الكرملين ضد “الغرب الجماعي” عبر أوكرانيا. الحرب التي توهم بوتين أنها ستنتهي بعد ثلاثة أيام بسقوط كييف، تبدأ بعد أيام سنتها الرابعة، وكانت تحولت منذ زمن إلى حرب مواقع. وبدلاً من أن تقتصر المعارك على الأراضي الأوكرانية، كما كان يخطط بوتين، انتقلت الصيف الماضي إلى داخل الأراضي الروسية في منطقة كورسك، وأضافت إلى الحرب جبهة أخرى من جبهات حرب الاستنزاف.
الحرب التي شنها بوتين على أوكرانيا، إثر رفض الغرب التوقيع على وثيقتي شروط الكرملين لضمان الأمن الآوروبي أواخر العام 2021، كان يريد إنهاءها بانتصار يمحو هزيمة روسيا في الحرب الباردة. ومبادرة ترامب الأخيرة بدعوة بوتين لعقد قمة ثنائية توقف العمليات القتالية، جاءت لتنتزع منه اعترافاً بفشل حربه على الغرب هذه. وكانت بمثابة إعلان من ترامب بأنه عازم على إنهاء ما بدأه بوتين ضد بلاده وعالمه عبر أوكرانيا، ودليل على عجز الكرملين عن إيجاد مخرج من المستنقع الذي ورط نفسه به.
الحرب على الغرب التي كانت تشكل إحدى مرتكزات دعوة بوتين لإسقاط النظام العالمي السائد، أحادي القطب بزعامة الغرب، يتصدى لإعلان فشلها رئيس أميركا التي تتزعم النظام العالمي، الذي يدعو بوتين إلى تقويضه. وترامب الذي أخذ على عاتقه محاولة إقناع بوتين بفشل حربه، هو الزعيم الغربي الأكثر شبهاً ببوتين نفسه. وأدرك بوتين هذه الحقيقة منذ رئاسة ترامب الأولى، ووصف برلمانه (الدوما) حينها ترامب بالرفيق، وأقام احتفالاً جرت فيه الشمبانيا جداولاً، وتنبأ أحد أركان البرلمان آنذاك الراحل فلاديمير جيرينوفسكي بحلول عهد ترامب ـــ بوتين الذي قد تمتد مفاعيله في قيادة العالم لعقود من الزمان.
ابتهاج البرلمان الروسي حينها، كان احتفالاً بانتخاب رئيس أميركي من خارج نادي الرؤساء التقليدي، ويدعو إلى الإنقضاض على كل إرث هذا النادي، مع التشبث بكل ما حققه لتبقى “أميركا أولاً”. فهو، وكما نظام الكرملين، مع العودة إلى التقاليد وعدم الإعتراف بوجود بشر مثليين، ومع جعل أميركا حصناً منيعاً ضد “أطماع” جيرانه وأصدقائه الذين يحملهم تكاليف ما يقدمه لهم من خدمات أمنية واقتصادية. وجيرينوفسكي ذاك الذي كانت آراؤه السياسية تشبه بجنونها وغرابتها جنون ترامب، لم يقدر له أن يبقى على قيد الحياة ليشهد على التشابه الرئيسي مع نظام بوتين في الجموح التوسعي، الذي لايعترف بالقوانين والأعراف الدولية التي تحكم العلاقات بين الدول.
الإعلام الروسي والعالمي لا يزال مشغولاً في تفاصيل الاتصال الهاتفي بين ترامب وبوتين، ودلالات طول مدة الاتصال الأول بينهما منذ إعلان بوتين حربه على أوكرانيا العام 2022. كما لا يزال مشغولاً في محاولة معرفة تفاصيل خطة ترامب لوقف الحرب التي تشنها روسيا على أوكرانيا، والتي لم يفصح عنها حتى الآن مبعوث الرئيس الأميركي إلى أوكرانيا وروسيا، كيث كيلوغ، المكلف بوضعها.
صحيفة الأعمال الروسية الكبرى vedomosti تابعت في 11 الجاري ما يعلنه فريق الرئيس الأميركي بشأن خطة تسوية النزاع في أوكرانيا، وموعد تقديم صيغتها النهائية للرئيس. ونقلت الصحيفة عن الفريق إعلانه بأن الخطة ستسلم للرئيس بعد عدة أسابيع، إثر الاستشارات بشأنها مع الحلفاء الأوروبيين.
نقلت الصحيفة عن ترامب تصريحه لشبكة فوكس نيوز الأميركية بأن أوكرانيا وافقت على حصول الولايات المتحدة على خامات المعادن الثمينة الأوكرانية مقابل مبلغ 500 مليار $ الذي حدده ترامب. وأشار إلى أنه يدرس إمكانية مواصلة الدعم العسكري لأوكرانيا مقابل الخامات المعدنية تلك. كما أعلن أنه كلف وزير الخزانة بزيارة أوكرانيا للتفاوض على تفاصيل الصفقة.
بعد أن تستعرض الصحيفة المواعيد المتعددة التي حددها كيلوغ لإنجاز خطته للتسوية في أوكرانيا وتسليمها للرئيس، تشير إلى أن المعالم الأولية لـ”خطة كيلوغ” نشرت في نيسان/أبريل العام الماضي على موقع إعلامي تابع لترامب. وأشار كيلوغ حينها مع شريكه في وضع الخطة Fred Flitz إلى أنهما اقترحا تأجيل انضمام أوكرانيا إلى الناتو، مقابل اتفاقية لضمان أمنها.
موقع قناة التلفزة الأميركية curenttime التي تبث بالروسية من مدينة براغ، استعرض في 13 الجاري آراء عدد من الخبراء السياسيين، بما جرى تداوله بين ترامب وبوتين في الاتصال الهاتفي الذي بادر إليه ترامب للتعبير لبوتين عن شكره على إطلاق سراح معتقل أميركي من السجون الروسية. وأشار الموقع إلى أن ترامب، وبعد الاتصال بالرئيس الروسي، اتصل هاتفياً ايضاً بالرئيس الأوكراني، وعرض معه ما دار بينه وبين بوتين بشأن التسوية في أوكرانيا.
نقل الموقع عن الروسية المتخصصة بالشؤون الأميركية Alexandra Filippenko قولها إن اهتمام ترامب بالمنطقة محدود للغاية، ويتعجل في إنهاء الحرب للانصراف إلى الشؤون الداخلية، ومواجهة التوسع التجاري الصيني في سائر بلدان أميركا الجنوبية. وتشير إلى أنه لا يفصح عن الخطط التي سيعتمدها لإنهاء الحرب. ورأت أن صوت أوكرانيا يضيع بين أصوات الأميركيين الذين يتابعون كيف ينفذ ترامب وعوده الانتخابية في الداخل. ورأت أن اختيار ترامب السعودية مكاناً للمفاوضات، يشير إلى الأهمية التي يوليها لمنطقة الشرق الأوسط.
البوليتولوغ الروسي Ivan Preobrazhensky يشكك في مدى استعداد بوتين لإجراء مفاوضات جدية. ودعا لانتظار حسم بوتين قناعته بضرورة إجراء المفاوضات. ويشير إلى كمية كبيرة جداً من الإشارات التي تصدر عن الدوائر العليا في السلطة الروسية، التي تؤيد إجراء المفاوضات. ويشير إلى أن بوتين يعرف مدى استعجال ترامب للانتهاء من المسألة واستعداده لتقديم تنازلات، ويرى في ذلك فرصة متاحة أمامه.
لكن بوتين لم يحسم أمره بعد بين الاستمرار في الحرب أو الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع ترامب الذي قد يكشر عن أنيابه في لحظة ما.
Alexander Baunov، مدير مركز Carnegie في موسكو الذي يستقر الآن في برلين ويصدر تحت إسم Politika Carnegie، نشر في 31 الشهر المنصرم نصاً تحدث فيه عن موقف بوتين والنخب الروسية من المفاوضات بشأن إنهاء الحرب في أوكرانيا، والتي تحدث عنها ترامب في خطاب القسم.
أشار المدير إلى أن بوتين، وبعد إعلان فوز ترامب في الانتخابات الرئاسية الأميركية، عبر عن تخوفه من أن ترامب قد لا يبقى على قيد الحياة حتى موعد تسلم منصبه. ورأى أن تخوف بوتين هذا يعكس ما تتصوره النخبة الروسية من تشابه بين سلوك النخبة الحاكمة في أميركا وسلوك النخبة الروسية، والتي لا ترى ما يحول دون منع المجموعة المنافسة من الوصول إلى السلطة.
قال الكاتب إن بوتين، وفي يوم تنصيب ترامب، أعلن خلال اجتماع مجلس الأمن القومي الروسي بأنه على استعداد ليبحث مع ترامب مسألة إنهاء الحرب، وليس وقفها. “ليس هدنة، بل سلام طويل الأمد” قائم على احترام المصالح المشروعة لجميع الشعوب، “أي مصالح الشعب الروسي” الذي شن بوتين الحرب بإسمها.
يرى الكاتب أن النصر الذي يحتاجه الكرملينن هو ذاك الذي تكتب روسيا بنفسها الاتفاقية بشأنه. أما النصر الذي يكتب غيرها نص اتفاقيته، فلا حاجة لها به. ورهان بوتين على النصر في أوكرانيا، كبير للغاية. وهو في حقيقته إلغاء لنتائج الحرب الباردة وعودة روسيا إلى العالم بشروط جديدة. لكن، في حال لم يكن النصر في أوكرانيا مبهراً، فلن تكون عودة روسيا مثيرة للإعجاب. والنصر الذي يمليه ترامب، حتى لو كان على حساب أوكرانيا، فسيكون نصراً لترامب بالدرجة الأولى.
المصدر: المدن