رانيا مصطفى
تستمرُّ المفاوضات بين “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد)، بقيادة مظلوم عبدي والحكومة الانتقالية في دمشق، بشأن الاندماج ضمن وزارة الدفاع السورية وتوحيد الأراضي السورية. يرفع عبدي سقفَ شروطه للانضمام ككتلة واحدة ضمن الجيش ومحاصصة سياسية لجناحه المدني “مجلس سوريا الديمقراطية” ضمن الحكومة، وحصص من الثروات النفطية والزراعية في شرق الفرات، الأمر الذي ترفضه حكومة دمشق. استمرار المفاوضات يعني أن لا رغبة لدى الطرفين في القتال، فمن الواضح أن توجهات حكومة دمشق، ومنذ بدء عملية ردع العدوان، هي بتجنب القتال، وتحقيق المكاسب بالطرق السلمية ما أمكن، فيما يبدو أن عبدي يُجيد قراءة التغييرات السياسية التي حصلت في سورية والمنطقة، حيث انقلبت كلُّ موازين القوى والتحالفات السابقة، ويحاول البحث عن مكاسب ممكنة ضمن الترتيبات الجديدة لسورية.
بات واضحاً أن المجتمع الدولي يُريد استقراراً في سورية والمنطقة، وقد وضع سقوط نظام الأسد نهاية لكلِّ محور المقاومة الإيراني، وكذلك لم تعد سورية منطقة نفوذ لروسيا، وبات الحكّام الجدد يسعون إلى الانكفاء وتحقيق حالة من التوازن في العلاقة مع الخارج. ومن تداعيات “طوفان الأقصى” والحرب على غزّة وما تبعه من تفجُّر الصراع في المنطقة أن الغرب بات يميل إلى التهدئة، ومن مصلحته توحيد الأراضي السورية وإنهاء فوضى السلاح، وهو يدعم حكومة دمشق في ذلك. هذا يعني أن وضع “قسد” والإدارة الذاتية لن يبقى على حاله. عبدي يمرّر الوقت بانتظار اتّضاح أمرين؛ الأوّل موقف الرئيس الأميركي ترامب حول جدية وكيفية انسحاب القوات الأميركية من سورية، وقد صرّح الأخير بذلك، وأوكل لفرنسا مهمّة ترتيب وضع شرق الفرات، وهي تتصدّر الإشراف على ترتيب الوضع السوري، باستضافتها مؤتمراً يخصّ سورية الخميس الفائت، حضرَه وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، وأبدت حماسها لتمكين الإدارة الجديدة من السيطرة وفتح سفارتها في دمشق، لكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لمّح إلى نية التحالف الدولي دعم مصالح حلفائه في قتال تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) و”قسد” في أثناء حديثه عن ضرورة دمجهم في الدولة الجديدة، وهو معني بترتيب الوضع الجديد مع دمشق في ما يخص منع عودة داعش. الثاني الخطاب المرتقب لعبد الله أوجلان، والمتوقع أن يدعو فيه إلى إلقاء السلاح مقابل إطلاق سراحه، ضمن خطّة المصالحة بين الحكومة التركية وحزب العمال الكردستاني التي تتوسط بها أحزابٌ سياسية تركية بارزة، لحل الملف الكردي داخلياً. ويبدو أن الرئيس أردوغان يميل إلى هذه المصالحة، وقد دفع الفصائل السورية التي كانت تعملُ ضمن الأجندة التركية لقتال وحدات الحماية الكردية وعناصر حزب العمال الكردستاني إلى الاندماج تحت مظلَّة وزارة الدفاع، وهذا يعني أنه لم يعد بإمكانها شن معركة ضدّ “قسد” إلا بقرار من دمشق، كما أن أنقرة دفعت بالائتلاف السوري المعارض إلى الحوار مع دمشق وحل نفسه وربما المشاركة في العملية السياسية.
تراهنُ دمشق على الانقسامات داخل تنظيم قسد
إلى جانب الرغبة الدولية والتركية لتمكين الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع من السيطرة على كل الأراضي السورية، تراهنُ دمشق على الانقسامات داخل تنظيم قسد؛ فهناك تيار مظلوم عبدي، المقرب من أوجلان ومن الغرب، الراغب في المفاوضات مع تحقيق مكاسب، فيما الجناح المقرّب من إيران، والمكون من قادة حزب العمّال الكردستاني في جبال قنديل وهم سوريون وأتراك، يرفضون، ويحملون أجندات غير سورية، ويشكلون كتلة وازنة ضمن “قسد”. أما العرب فيها، فقد يعلنون انشقاقهم في حال رجحان الكفة الرافضة للتفاوض مع دمشق.
لا تمثِّل قسد، وشكلُ الإدارة الذاتية التي تشرف عليها، طموحات أكراد سورية، وهذه القوات تنظيمٌ تبنَّاه التحالف الدولي لقتال داعش ويضمُّ أجندات غير سورية. بالأصل نواة التنظيم هو حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني، وقد سلَّمَه نظام الأسد مهمّة قمع الأحزاب الكردية التي شاركت في الثورة السورية في 2011. وسبق أن ذكر الرئيس الشرع مظالم الأكراد السوريين في عهد النظام البائد؛ وهذا لا يتفق مع نية اللجنة المكلفة من الرئاسة للتحضير لمؤتمر الحوار الوطني تجاهل مشاركة الأكراد، بما فيها أحزاب المجلس الوطني الكردي، بحجة عدم إلقاء قسد السلاح. إن النظر في كيفية تلبية مطالب الشعب الكردي في سورية وتطمينه سيسهِّل على الشرع وحكومته مهمَّة المفاوضات مع قسد. والتطمين ليس بالكلام، بل بإعداد خطَّة متكاملة ومؤطّرة زمنياً للمرحلة الانتقالية عبر إعلان دستوري مثلاً، وتتضمن كيفية توسيع دائرة مشاركة السوريين جميعاً، ومنهم الأكراد، في تقرير مصير سورية.
الميول الانفصالية، إن وجدت في مراحل سابقة لدى قسم من أكراد سورية، ليست أصيلة، بل وليدة ظروف إرث التهميش
من الواضح أن الميول الانفصالية، إن وجدت في مراحل سابقة لدى قسم من أكراد سورية، ليست أصيلة، بل وليدة ظروف إرث التهميش في العقود السابقة، ووليدة القوة التي حظيت بها قسد نتيجة تبنِّي التحالف الدولي دعمها. وأكراد سورية، ككل السوريين، يتطلعون اليوم إلى حياة كريمة وآمنة وإلى نيل حقهم في ممارسة حقوقهم الثقافية، والتحدث بلغتهم والتعلم بها، فيما تحتاج كل المنطقة الشرقية، عرباً وكرداً، إلى ضمانات بألا يتكرر التهميش الذي تعرضت له في سنوات حكم البعث، خاصة في ما يتعلق بالتنمية الاقتصادية والخدمات.
من اللافت عند تناول الملف الكردي في سورية عدم تجاوز كيفية معالجة الشرخ العربي الكردي، والذي يعود إلى ثقافة التعالي العربية تجاه القوميات الأخرى، والقائمة على إرث الأدلجة القومية التي تبنَّتها الأحزاب القومية التي حكمت البلاد العربية، ومنها حزب البعث في كل من سورية والعراق، وغذَّى هذا التعالي خلال سنوات الثورة السورية الخطاب المعادي لدى جزء من النخب السورية التي كانت تدور في فلك الأجندة التركية، وبرَّرت اقتتال فصائل إسلامية مع تنظيم “قسد” تحقيقاً للمصالح التركية وحسب. ولا ننسى هنا أن الدعم الدولي لقسد ضخّمها، وزاد من الوهم الكردي بإمكانية الاستقلال. هذا التعالي العربي يصل إلى حدّ الشوفينية، فهناك دعوات تظهر هنا وهناك تدعو إلى محاربة “قسد”، رغم ميل الإدارة الجديدة إلى الحلول السلمية. أعتقد أن نقاش كيفية معالجة القضية الكردية في سورية يبدأ من نقاشٍ آخر لا يُطرح اليوم كثيراً، وهو نقاش إشكالية القومية العربية في سورية، وكيفية نزعها من إرث الإيديولوجيا السابقة، وهذا لا يحلّ باستسهال مقولة “جمهورية سورية” وحذف كلامي لعروبتها، بل يحتاج إلى نقاش معمَّق تُعنى به النخب السورية.
المصدر: العربي الجديد