محمود الوهب
كل من عرف حياة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وتابع مسيرته العملية، وبُعْد أفعاله، وأسرار نجاحه، على الصعيد المادي فحسب، يستطيع أن يلخّص شخصيته بعبارة واحدة أنه “رجل صفقات”، ما يعني اعتماده قوانين التجارة، أي الشطارة بمعناها اللغوي الذي يقوم على مبدأ الشرِّ، وأهم أدواته الخبث والمكر والخداع، والدوس على قيم الإنسان… وربما، من هنا، استشرف بعضهم، لدى نجاحه في دورته الرئاسية الأولى، أن استمراره في السلطة لن يطول كثيراً، إذ لا يكافئ أسلوبه في التعامل أو يعادل حجم حضارة الولايات المتحدة، ولا مكانتها الدولية.. لكنه نجح ثانية، بأصوات اللوبي الصهيوني المعتادة، واستحق أيضًا، وبشعبويته المفرطة، أصواتًا إضافية من التجمُّعات الإسلامية التي كانت قد أعطته أصواتها آملة وقوفه إلى جانب قضاياها العادلة! وأهمها، طبعًا، القضية الفلسطينية، وتحديدًا تأييده لقيام الدولة الفلسطينية التي كثر الحديث عنها منذ حرب 7 أكتوبر (2023) وخلالها على لسان سلفه جو بايدن، لكن تلك الوعود ذهبت مع طموحاته القديمة إلى ما عرفت بـ”صفقة القرن”، وتفتق ذهنه، هذه المرة، باجتهاد من بعض أثرياء الولايات المتحدة الملتفين حوله، عن شراء غزّة وترحيل الغزاويين عن أرضهم التاريخية إلى مصر والأردن! فلم يكتف بدعمه الدائم للمعتدين الإسرائيليين.. ولدى سؤال بعضهم متشككًا بموافقة رئيسي مصر والأردن، أومأ برأسه أن: سيوافقان.. وفي تلك الإيماءة نوع من الاستعلاء، واستصغار لشأن الرئيسين العربيين.. وفي وقت ألغى فيه كل ما تنفقه الولايات المتحدة لتلبية ضرورات حياة إنسانية على النطاق العالمي، عاد لتزويد إسرائيل بقنابل انشطارية من زنة 11 طنًا، كان بايدن قد منعها عنها، ويعلن ترامب عن تقديم مساعدة لإسرائيل لهذا العام 2025 قدرها سبعة مليارات ونصف المليار دولار، أي ضعف ما كانت تمنحه الولايات المتحدة سنويًا لإسرائيل، وقد حجب مساعدات كانت تقدِّمها الولايات المتحدة لدول فقيرة تساهم في تنمية شعوبها وتعينها على ضرورات الحياة..
تثير مواقف ترامب وبعض من رؤساء الولايات المتحدة أسئلة جمَّة عن مفهوم البناء الحضاري الكلِّيِّ.. فهل يتمثل فقط في التنمية العامة التي تشمل الميادين الاقتصادية كافة، بالإضافة إلى مراكز الأبحاث العلمية التي تلعب في عصرنا أدواراً مميزة في مختلف ميادين التنمية الحضارية، وخاصة في تطبيقاتها التكنولوجية، أم إن هناك مقومات أخرى أكثر أهمية، وأكثر عمقًا؟ قد لا تبدو دائماً لبعض ساسة الدول المتحضرة! الحقيقة إن كثيرين ممّن درسوا تاريخ الحضارات نمواً وتهالكاً اكتشفوا أموراً منها: أن جذر الحضارة الرئيس يكمن في مداها الإنساني، فلا تكتمل من دونه، وقد لا يطول أمد أية حضارة إذا انحسرت قيمها الإنسانية! فالحضارة ليست تقدمًا في العلوم والتكنولوجيا المتطورة، ولا هي في حيازة الأسلحة، والإكثار من القواعد العسكرية لتأديب الدول الأخرى، وبالتالي، لقتل الإنسان وقيمه، وكلَّ منجزاته.. بل إنها تكمن في تمكين الإنسان من أرضه، وفي الإفساح له في تنميتها، وإيجاد سبل أفضل للحياة فيها، وبالتالي، للمساهمة في البناء الإنساني العام.. والمعتقد أنَّ البناء الإنساني هو الأهم، وهو الأبقى لديمومة الحضارة، على مرِّ التاريخ.. إذ يشير علماء الاجتماع إلى سيرورة خط الحضارة.. فيرَوْن أنها تبدأ بمرحلة الطفولة (الولادة والنمو) فالشباب (البناء والإبداع والترسيخ) ثمَّ الكهولة (الترهل والشيخوخة فالموت) والانتقال إلى مكان آخر! وفي كل تلك المراحل دورٌ مهم ورئيس للإنسان باني الحضارة..
تثير مواقف ترامب وبعض من رؤساء الولايات المتحدة أسئلة جمَّة عن مفهوم البناء الحضاري الكلِّي
وما يهمنا هنا دور الإنسان في مرحلتي الصعود والهبوط، فإذا أفقد السياسيون الذين يشرفون على بناء حضارة ما، جوهرها أو افتقدوا جوهرهم الإنساني، فأبشر بزوالها وزوالهم. هكذا يرى عالم الاجتماع، ابن خلدون،” فقد أفرد فصلاً في “المقدّمة” وضع له عنواناً: “من علامات الملك التنافس في الخلال الحميدة وبالعكس”. ويرى فيه أن التنافس في عمل الخير ومكارم الأخلاق، إنما هو مداراة الملك، ويتجلى في أخلاق السياسة، أما العكس فهو تماديهم في الرذائل والقبائح، ما يؤدي إلى ذهاب الملك وعزِّه! ويعني ذلك بلغة اليوم وتعابيرها تمكين كل ما هو إنساني. ما يشير إلى احترام أمن الإنسان وسلامه، والحفاظ على أرضه، وملكه الذي شقي من أجله. أما إذا اعتقد بعض السياسيين بان غنى دولته، وامتلاكها أدوات القوة المعاصرة، يجيز له التعالي والعربدة متجاوزًا حقوق الآخرين فهو عندئذ يغدو عامل هدم في روح تلك الحضارة، وانتقالها إلى مكان آخر يتمثَّل قيمها.. ويستشهد ابن خلدون بالآية الكريمة من سورة الإسراء: “وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا، فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ، فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا..” والفسق في معاجم اللغة العربية، يعني الابتعاد عن أوامر الله، وما أوامر الله، إن لم تكن في حسن التعامل الإنساني، وترسيخ مبادئ الحق والعدل والحرية، والتعايش السلمي بين شعوب الأرض كافة.
بالطبع لا أقول بأنَّ انهيار أميركا بات قريباً، ولكن ابتعادها عن الشرائع الدولية، يدخلها في طغيان ممقوت لا بد من إيقافه.. وأعتقد أنَّ العالم اليوم يتجه إلى نظام جديد متعدّد الأقطاب رائدته الصين الشعبية.. كما أنَّ ثمة عوامل داخل الولايات المتحدة ذاتها، سياسية واجتماعية واقتصادية تقف ضد طغيان ترامب، ناهيك بمواقف بعض البلدان الأوروبية.. وبحجم الحركات الشعبية، والمنظمات الحقوقية والإنسانية تناهض طغيان ترامب ونتنياهو، كما أن موقف العرب، وهذا مهم، على عكس ما يتصوره ترامب، إذ لن يخذلوا أنفسهم، وقد أوضح ذلك ملك الأردن، عبد الله الثاني، لدى لقائه ترامب. وترفض الخارجية المصرية فكرة الترحيل، ويبحث الرئيس المصري في إيجاد تصور كامل لإعادة إعمار غزة مع بقاء أهلها، حتى وإن كان ترامب يراوغ في تصريحاته، ويعلي صوت التهجير لغاية الابتعاد عن “حلِّ الدولتين”، وعن المستوطنات الإسرائيلية التي بنيت على أراض فلسطينية في الضفة الغربية.
المصدر: العربي الجديد