محمد برو
في المشهد السوري عامة وفي عالم المعتقلات والسجون على وجه أدق، لامست الغالبية العظمى من السوريين حكم الجلادين، وتحكمهم في مصائر الملايين الذين رزحوا تحت حكم دام زهاء خمسين سنة ونيف، مارس فيه الحاكم الفرد وزبانيته أشكالاً من القمع والتعذيب والتنكيل بالضحية، على نحو غير مسبوق.
فبالرغم مما شهده العالم على مدى تاريخ طويل يمتد إلى قرون من التوحش في مجالدة الخصم والعدو أو المعارض للحكم، إلا أن الشطر الأعظم من هذا التاريخ الدموي يتمحور حول تعجيل الجلاد بقتل ضحيته، وإنهاء وجودها بل وطمسه في كثير من الأحيان.
في المشهد السوري المعاصر نجد الأفانين في تعذيب الضحايا والإبقاء على حياة الآلاف منهم لغاية التلذذ بالتعذيب وحسب، ولا يفسر هذا إلا تمتع وتلذذ الجلاد بتعذيب ضحيته ورؤيتها تصرخ وتئن وهو ينظر إلى دمائها تنزف وعظامها تتحطم وإنسانيتها تسحق وتشوه، ليس هذا في أقبية التحقيق، فمعظم البلدان تمارسه بالخفاء للتحصل على معلومات قد تخفيها الضحية، إنما في الحالة السورية يستمر التعذيب من لحظة الاعتقال مرورا بمرحلة التحقيق وصولا إلى حبسه في مستودع بشري انتظاراً لصدور قرار العفو عنه، والذي لا يتعلق أبداً بالحكم الذي ناله سواء براءة أو مؤبد أو إعدام.
ربما يذكرنا هذا بمشاهد الجحيم الأسطورية التي تتمجد فيها ذات الآلهة وهي تسرف في تعذيب ضحاياها وعبيدها العاصين في جحيم لا تنطفئ ناره أو عذاب متكرر لا يتوقف، ليس للخلوص إلى نتيجة ما بل لمجرد العقاب، وجميعنا يذكر كيف عبّرت الأساطير اليونانية عن هذه الدائرة التي لا تنتهي من العذاب المتكرر برتابة تفوق استيعاب البشر وقدرتهم على التحمل.
وربما كانت هذه إحدى غايات العقاب الأسطوري في أن تكون حكاية التعذيب بهولها رادعا لا يمكن للنفس البشرية أن تتجاوزه بسهولة، فتنخلع مقاومتها من تخيل هذه الحكاية فلا تجازف في التمرد والعصيان.
هذا النموذج من الانتقام المستمر يمنح آلهة التعذيب والجلادين لذة لا يعرفها الأسوياء من البشر، فهذا التشوه الناجم عن الولوغ في الدم واعتياد صرخات المعذبين بشكل مستمر يخلق لصاحبة متعة غريبة..
في الأساطير اليونانية يصدمنا مشهدان لقسوة التعذيب وأبديته، صخرة سيزيف وهو يعالج عذابه الأبدي في رفع الصخرة إلى قمة الجبل بعناء مدمر ويعاود الكرة إلى الأبد بعد أن تتدحرج الصخرة منه في كل مرة إلى الأسفل، عقاباً له بعد تمرده على الآلهة وعصيانه المتكرر، كذلك أسطورة بروميثيوس الذي سرق نار الآلهة المقدسة وتشاركها مع البشر، فكان عقابه أن يبقى مقيداً إلى صخرة عظيمة في حين يقوم عقاب عظيم بنقر كبده كل يوم.
هذا النموذج من الانتقام المستمر يمنح آلهة التعذيب والجلادين لذة لا يعرفها الأسوياء من البشر، فهذا التشوه الناجم عن الولوغ في الدم واعتياد صرخات المعذبين بشكل مستمر يخلق لصاحبة متعة غريبة كما يتمتع الجرب بحك جربه وهو يدمي جلده بيديه.
الملفت للنظر وربما يكون مثيراً للدهشة أن الانحدار في سلم التوحش ارتبط تاريخيا مع صعود الحضارة أو تغولها، فالإنسان البدائي لم يعرف هذه الأشكال من التعذيب المديد لكنه عرف أشكالا من القتل البطيء الذي ينتهي على نحو قريب بموت الضحية، كأن يقيدها إلى جذع شجرة ويتركها فريسة للضواري أو النمل الأبيض.
وقديماً كانت العرب تعذب بعض العصاة بما سمته “غل وقمل” وهو أن يقيد الرجل بجلد له وبر يرتع فيه القمل فيعذب المقيد من دون أن يستطيع ذب القمل عنه.
حتى طقوس التضحية البشرية التي كانت تمارسها قبائل الأزتك، رغم عنفها البشع إلا أن الضحية تفارق الحياة خلال دقائق، كل هذا لم يرق إلى أفانين التعذيب المديدة التي اجترحها وتفنن بها الإنسان المتحضر على نحو وحشي غير مسبوق وما هذا إلا لإطالة أمد اللذة التي يتمتع بها الجلاد.
وطالما شهدنا وبشكل متكرّر كيف يأمر رئيس سجن تدمر الجلادين تحت إمرته أن يتوقفوا في يوم محدد عن تعذيب السجناء لأغراض إدارية، مهدداً إيّاهم بأقسى عقوبة إن هم خالفوه، ومع هذا كنا نراهم يترقّبون الساعة التي يغيب فيها آمرهم ليتمتعوا بالتعذيب الذي أدمنوه، وكيف كانوا يتلقون العقاب جلداً بالسياط حين يفتضح أمرهم، ومع هذا لا يفترون عن هذه المغامرة في كل مرة، وكأن إدمانهم لتعذيب الضحايا والتمتع بصرخاتهم يضارع إدمان متعاطي المخدرات.
جميعنا شاهدنا كيف كان مجرم مجزرة التضامن يتلذّذ وهو يلقي بضحاياه قتلى واحداً تلو آخر وهو يطلق رصاصته على رؤوسهم، وقد كان المجرم حافظ الأسد -كما أفشى قريبون منه- يسهر لياليه متمتعا بالأفلام التي سُجّلت له في ساحات تدمر والتي وثقت ملاحم التعذيب والإعدامات التي نكلت بخصومه ومعارضيه.
ومع سقوط نظام ابنه بشار تم الكشف عن طرق تصوير وتسريب أفلام التعذيب التي وثقت التنكيل المرير بمئات آلاف السوريين الأبرياء، وكيف كانت تُباع عبر “الإنترنت المظلم” لمرضى ساديين يتمتعون بهذه المشاهد الكارثية
هذه الممارسات تمنح صاحبها شعوراً عاتياً بالقدرة والتحكم والسيطرة وهي منازع تشاكل الصفات الأسطورية للآلهة المتخيلة، وتُخرج الجلاد من مصاف البشر الطبيعيين، هذا التشوه يستدعي جملة من التشوهات التي ترافق صاحبها إلى قبره، وكل حديث عن علاج هؤلاء المجرمين وإعادة تأهيلهم ما هو إلا ضرب من العبث وهدر الطاقات وإضاعة الوقت فيما لا طائل منه، والأولى دفع هذه الجهود والمقدرات للعناية بالضحايا ومحاولة انتشالهم من آثار ما لحق بهم من ضرر يصعب تخيله كما تصعب روايته.
تناولت العديد من الدراسات في علم النفس الاجتماعي مفهوم “التجريد من الإنسانية”، حيث يسهل على الجلاد الإسراف في العنف تجاه ضحيته التي انحطت بنظره الى مستوى الحيوان أو الخائن، فينجو بذلك من احتمالات صحوة الضمير أو الإحساس بالذنب..
يدرك المتتبع تلك العلاقة الوثيقة بين السلطة المطلقة والحكم الفردي من جهة وبين السعي المستمر للسيطرة وتلذذ الجلاد بتعذيب ضحيته، ولإتمام إحكام المشهد يعمد الحاكم أو الجلاد الأكبر إلى شيطنة الضحية كيما يقوم جلادوه بفعلهم الوحشي وهم مؤمنون بشرعية ما يفعلون بل بوجوبه.
لقد تناولت العديد من الدراسات في علم النفس الاجتماعي مفهوم “التجريد من الإنسانية”، حيث يسهل على الجلاد الإسراف في العنف تجاه ضحيته التي انحطت بنظره الى مستوى الحيوان أو الخائن، فينجو بذلك من احتمالات صحوة الضمير أو الإحساس بالذنب، وربما أخطر ما في هذه الظاهرة هو شيوع ثقافة اجتماعية تبرر هذا العنف وتشرعنه بل وتنادي به سبيلاً لإرساء العدل والاستقرار والأمن الاجتماعي، وسيكون هذا بمنزلة تفويض من السلطة والمجتمع لتطبيع هذا السلوك الجرمي، وهنا تتعقد المعضلة لأنها ستتحول إلى شكل من أشكال العقد الاجتماعي الذي يستعصي على المقاومة.
إلا أن الجلاد لا يملك فكاكا من جريرة جريمته وعواقبها الوخيمة، فأول ما يمسه من هذا السلوك تشوه ذاته وتمزقها بين شطره المتوحش وبقايا إنسانيته المتلاشية، وسيمضي الشطر الأكبر من حياته يصارع أشباح ضحاياه، وسيبقى في فصام نكد بين شخصيته السرية غالبا كجلاد متوحش، وبين شخصه العادي كإنسان ورب أسرة يعيش مع زوجة وأبناء.
وكثيرا ما ينتهي به المطاف إلى إدمان الكحول والمخدرات والعقاقير المهدئة، وسيسكنه الخوف والحذر المرضي والارتياب، طالما أن بعض ضحاياه ما يزال على قيد الحياة، وربما يكون القصاص العادل في بعض أوجهه رحمة له من هذا العذاب.
المصدر: تلفزيون سوريا