معن البياري
إجابتان على السؤال أعلاه: الأولى: نعم، نجح المؤتمر الوطني الفلسطيني في اجتماعاته في الدوحة. الثانية: ليس بعد. … وجوه النجاح المتحقّقة ليست قليلة. وللذين استنفروا في رام الله ضد المؤتمر، بحفلة جنونٍ في استهداف المشاركين فيه والمبادرين إليه، سهمٌ ظاهرٌ في هذا النجاح، لأن واحداً من مقاصد المؤتمر أن يشعُر هؤلاء بأن اختطافَهم منظمّة التحرير يجب أن ينتهي، وأن يرتجّوا على النحو الذي شوهدوا فيه، في مسلكياتٍ قمعيةٍ وبوليسيةٍ وإعلاميةٍ وتحريضية، فذلك شاهدٌ على أن للمؤتمر قوّتَه وفاعليّتَه اللتيْن تُقلقان نُعاسَهم فوق كراسيهم. ومن وجوهٍ أخرى أهمّ للنجاح انعقاد المؤتمر نفسه، وبمشاركةٍ عريضةٍ، ليس فقط بأعداد من تقاطروا إلى الدوحة من أربع أركان الأرض (من الأميركيتين وأستراليا مثلاً)، وهم نحو أربعمائة، وإنما أيضاً بما يمثّلون من شرائح عُمرية ومهنيّة، وبما لهم من خبراتٍ متنوّعةٍ في الفعل الوطني الفلسطيني، المدني والنضالي والكفاحي والأهلي، من الداخل ومختلف خرائط اللجوء والاغتراب، فضلاً عن تنوّعهم في الجغرافيا الفلسطينية، من قطاع غزّة والضفة الغربية والقدس. ولهذا دلالته في أن العموم الفلسطيني يفتقد منظمّة التحرير، ويشتهي فاعليةً فلسطينيةً بشأن المشروع الوطني، ويتطلع إلى قيادةٍ موحّدةٍ تأتلف فيها القوى والتشكيلات العاملة في المجال العام. وفي أن الإجماع على عجز القائمين على القرار الرسمي، وبؤس أدائهم وركاكته (حتى لا نقول نعوتاً أخرى) واسع.
وجهٌ آخر لنجاح المؤتمر أن المشاركين فيه توافقوا على ما خرج به من مواقف وتوصياتٍ وخططٍ ومبادراتٍ عمليةٍ بحدودٍ دنيا من اختلافاتٍ في الرؤى والاجتهاد، وأنهم تناقشوا وتداولوا وتحاوروا بحرّية، وبلا حساسياتٍ وبلا خصومات، وإنْ “زعل” فلانٌ وعلّانٌ من هذا التفصيل وذاك، على الرغم من اختلاف مرجعيات عديدين حاضرين، وتنوّع تجاربهم وتعدّد تنظيماتٍ ما زالوا فيها أو غادروها. والمعنى في هذا أن في وُسع الفلسطينيين أن يجتمعوا، ومن دون تأثيراتٍ من أي جهةٍ أو دولة، ومن دون حساباتٍ أو رهاناتٍ خارجيةٍ أو إقليمية، ويتوافقوا على برامج وخطط عمل، وبمبادراتٍ من نخبهم، من دون أن يدفعَهم أحدٌ إلى هذا الأمر وغيره. ويعطي وجهُ النجاح هذا الفلسطينيين، في لحظتهم الراهنة، درساً غايةً في الأهمية، مؤدّاه أن الرهان الحقيقي في استنهاض همّتهم ليس منوطاً بالفصائل والتنظيمات، وبعضُها ميكروسكوبي يُفاجئك بوجوده في اجتماعات المصالحات الموسمية، وإنما في الفاعليات والشبكات المدنية والأهلية والنشطاء والنخب الشابّة والمخضرمة ذات الحضور في محيطها ومجتمعاتها. ويُؤشَّر هنا إلى هذا الأمر، مع التقدير الواجب لكل خبرات النضال والكفاح في الفصائل، على اختلافات اليمين واليسار فيها، ومع وجوب الإفادة منها.
يحتاج المؤتمر الوطني الفلسطيني لاستكمال نجاحاتِه أعلاه (وغيرها) إلى أن يفيدَ من الزّخم الذي واكبه، ومن الآمال المعقودة عليه، وذلك أولاً بالتسريع بإعلان أسماء رئيسه وأمينه العام وأمين السر (لماذا لم يجتمع أعضاء لجنة المتابعة الـ17 وتقرّرُهم؟)، ثم بالمضيّ في تنفيذ خطّة المائة يوم التي أقرّها المجتمعون، وفي الشروع بتنزيل التوصيات موضع التطبيق. وفي ظنّ صاحب هذه السطور أن واحدةً من هناتٍ وقع فيها المؤتمر أنه كابَر في بعض الأمور، وافترض لنفسه قدراتٍ ليس في طاقته أن يؤدّيها، وكان الأدعى أن يكون، في بعض قراراتٍ تبنّاها، أكثر واقعيةً. ولعله في هذا استسلم لبعض كلامٍ قيل في قاعة الاجتماعات غالى وبالغ بعض الشيء. والمحمودُ هنا أن هذا المنحى لم يكن الغالب، وأن توصياتٍ كثيرةً مما جرى اعتمادُها ممكنة التنفيذ، إذا واصلت لجنة المتابعة (والهيئة العامّة بأعضائها الـ108 المستغرَب تشكيلها وطرائق تشكيلها) نشاط اللجان التحضيرية، وإذا ما توبعت القرارات بكيفيّاتٍ عمليةٍ، وجرى إطلاع أعضاء المؤتمر على كل الخطوات أولاً بأول، فليس من قيمةٍ لأي اجتماعٍ ينعقد من دون الإسراع بتنفيذ قراراته ومرئياتِه أولاً بأول. ولأن الحمولة هنا ثقيلة، والانتظاراتِ عالية، في الوسع التخفّف مما هو عسير الإنجاز، مع ترتيب الأولويات وتقديم العواجل الملحّة، سيّما وأن المؤتمر وصف نفسَه بأنه قوة ضغط فلسطينية. والراجح أن الاستغراق في الضغط وحدَه ليس هو ما دفع المشاركين إلى أن يؤمّوا الدوحة، ويتكلّف كثيرون مالياً ومعنوياً، فالأكثر ضرورةً أن تُرى نواتج هذا الضغط في وقتٍ منظور، … قريبٍ إن أمكن.
المصدر: العربي الجديد