رندة حيدر
عدم استكمال إسرائيل الانسحاب الكامل من جنوب لبنان، واحتفاظها بخمس نقاط تعتبرها استراتيجيةً في قلب الأراضي اللبنانية، تشرف على المناطق اللبنانية وعلى المستوطنات الإسرائيلية في آن، مؤشّر على مرحلة قديمة جديدة في التعامل الإسرائيلي العسكري مع وجود تنظيمات مسلّحة معادية لها في جنوب لبنان، وبالقرب من مستوطناتها الشمالية. لإسرائيل تجربة طويلة مع المنطقة الأمنية في الجنوب، لكنّ احتلال هذه النقاط الاستراتيجية يستند هذه المرّة في الأساس إلى دروس هجوم 7 أكتوبر (2023)، وتداعياته على العقيدة القتالية للجيش الإسرائيلي، الذي انتقل حالياً إلى أسلوب الحروب الطويلة ضدّ تنظيمات مسلّحة غير دولاتية مثل حركة حماس وحزب الله، وبعد أن تحوّلت الجبهة الداخلية الإسرائيلية نحو الهدف الأساس للمواجهات العسكرية.
إصرار إسرائيل على السيطرة على النقاط الخمس في لبنان أكبر ذريعة يمكن أن يستخدمها حزب الله للتمسّك بسلاحه
كلّ من يراقب السلوك الإسرائيلي، سواء في قطاع غزّة أو في لبنان، لا بدّ أن يلاحظ أن اتفاقات وقف النار التي توصّلت إليها إسرائيل، سواء مع لبنان أو مع “حماس”، لا تعني ولا بأيّ شكل وقف العمليات بصورة مطلقة. فالاتفاق مع “حماس” هو على وقف مؤقّت لإطلاق النار، ومع لبنان هناك اتفاق مع تفاهمات علنية وسرّية مع الولايات المتحدة، تُعطي إسرائيل حرّيةَ العمل في الأراضي اللبنانية كلّها، لفرض الاتفاق كما يدّعي الإسرائيليون. فإذا كانت اتفاقات وقف إطلاق النار لا تعني توقّف الحرب في غزّة، ولا وقف الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان، فمعنى ذلك أن إسرائيل هي من يحدّد قواعد اللعبة، في غزّة ولبنان، وحتى في الجولان السوري، وفي هذا كلّه تحظى بدعم الإدارة الأميركية وتأييدها.
وفي الواقع، مبدأ الحروب الطويلة هو نتيجة الصدمة الكبيرة التي خلّفها هجوم 7 أكتوبر (2023)، والإخفاق العسكري الإسرائيلي والاستخباري غير المسبوق، الذي دفع ثمنه هذه المرّة المدنيون في إسرائيل من سكّان المستوطنات القريبة من الحدود في “غلاف غزّة”، والمستوطنات في شمال إسرائيل، التي اضطرّت إسرائيل إلى إخلائها منذ بداية حرب الإسناد بين حزب الله والجيش الإسرائيلي، في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لكن تغييراً عميقاً أفضى إليه الهجوم في وعي الإسرائيليين، بغضّ النظر عن انتماءاتهم السياسية، هو صعوبة استمرار العيش في هذه المنطقة بأمان من دون قضاءٍ مبرمٍ على التنظيمات المسلّحة المعادية له، في الضفة الغربية وقطاع غزّة، وفي لبنان. وهذا يشكّل معضلةً حقيقةً تتجاوز بكثير الإطارين، العسكري والسياسي، وهي تتناول جوهر إمكانية استمرار إسرائيل بالعيش بسلام في هذه المنطقة، ويفسّر هذا جزئياً لماذا يعتبر الإسرائيليون “7 أكتوبر” “تهديداً وجودياً” لهم، وكيف قوّض ثقتهم بالجيش وبالدولة وبالمؤسسات وزعزعها.
وما يفاقم هذه المعضلة أن الحرب التي استمرّت 15 شهراً ضدّ “حماس” في قطاع غزّة، أو الحرب الإسرائيلية ضدّ حزب الله في لبنان، لم تؤدِّ إلى نتائج حاسمة مثل التي ينتظرها الجمهور الإسرائيلي، وعلى الرغم من الضربات المؤلمة التي وجّهتها إسرائيل إلى التنظيمَين، لم تقضِ قضاء مبرماً عليهما، لا عسكرياً ولا مدنياً، ولم تقدّم ردّاً قاطعاً على القلق الإسرئيلي العميق على أمنهم.
في ضوء هذا الواقع، تحاول القيادة العسكرية والسياسة في إسرائيل التعويض عن عجزها عن تحقيق “النصر المطلق”، من خلال استغلال وقف إطلاق النار والترتيبات الأمنية من أجل الاستمرار في هذه الحرب بطرائق وأساليب مختلفة، الأمر الذي يفتح الباب على مصراعية أمام عصر الحرب الدائمة والمستمرّة. من ناحية أخرى، المعضلة التي تواجهها إسرائيل في كيفية التعامل مع “حماس” أو حزب الله هي أيضاً من صُنعها، وسلوكها الحالي يزيدها حدّةً ويفاقمها. فالموقف الإسرائيلي الرافض أيّ دور للسلطة الفلسطينية في إدارة شوؤن غزّة يعرقل أيّ إمكانية لقيام بديل عن سلطة “حماس”. ينطبق هذا أيضاً على التعامل مع سلاح حزب الله في لبنان. إصرار إسرائيل على السيطرة على النقاط الخمس في لبنان، ورفض استكمال انسحابها في الموعد المحدّد له أكبر ذريعة يمكن أن يستخدمها حزب الله للتمسّك بسلاحه، ويحبط أيّ محاولة من الحكم اللبناني لنزع سلاح حزب لله مع استمرار احتلال إسرائيل أراض لبنانية.
أيّ قرار خاطئ يتخذه حزب الله في هذه المرحلة لن يضعه وحده في دائرة الخطر، بل لبنان كلّه
تستند المعالجة الإسرائيلية لنزع سلاح حزب الله إلى فهم خاطئ للواقع اللبناني، وتركيبته المعقّدة، وتداعيات الحرب الماضية على حزب الله وجمهور المقاومة في لبنان، فحزب الله ليس تنظيماً عسكرياً فقط، بل نجح خلال السنوات الماضية في إيجاد “مجتمع موازٍ” لجماعته من الطائفة الشيعية في لبنان، مع بناها التحتية الاجتماعية والاقتصادية والتربوية والإعلامية والدينية، واستغلّ ضعف الدولة اللبنانية وتفكّكها جرّاء الحروب الأهلية والاحتلالات الإسرائيلية كي يتحوّل “دولةً داخل الدولة”. وعلى الرغم من التغيرات الجيوسياسية كلّها التي طرأت أخيراً على دول المنطقة، وتراجع محور المقاومة التي تتزعمه إيران جرّاء سقوط نظام الأسد، والخسارة الكبيرة التي مني بها حزب الله، فإن ظاهرة حزب الله هي أكثر تجذّراً في البيئة الشيعية اللبنانية. ومن الصعب بمكان أن تنجح إسرائيل في كسر الحزب من خلال استمرارها في احتلال مناطقَ من لبنان بهذه الطريقة. الأمر الوحيد الذي سينجم عن ذلك إضعاف سلطة الدولة وهيبتها، ووضعها قيد الاختبار في مواجهة استمرار الاحتلال.
حزب الله أمام منعطفٍ خطر وخيارات صعبة، وأيّ قرار خاطئ يتّخذه في هذه المرحلة لن يضعه هو فقط في دائرة الخطر، بل لبنان كلّه.
المصدر: العربي الجديد