معن البياري
طيّرت وكالة الأنباء، رويترز، في 17 فبراير/ شباط الحالي إفادةً منها، أنها “تسحب” خبراً “مستعجلاً جداً”، كانت قد بثّته في 11 الشهر نفسه، وتعلّق بتصريح للعاهل الأردني، عبدالله الثاني، في مختتم مباحثاته مع الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، في البيت الأبيض في ذلك اليوم. وذكرت إن خبرَها ذاك “مضلّل، وتم سحبُه، ولن يُنشر أي خبرٍ مستعجلٍ جداً بديلاً عنه”. ولافتٌ أن تنعتَه الوكالة بهذه الصفة، وهي الثانية بين أحكامها التسعة الخاصة في وحدة تقصّي الحقائق لديها، (الأول: زائف)، فالتضليل فعلٌ شنيع، بداهةً، في الممارسة الإعلامية، سيّما الإخبارية. و”المضلِّل”، بحسب ما تعرّفه “رويترز”، هو “محتوى حقيقي يشتمل على معلوماتٍ غير دقيقة الحقائق، أو غير مكتمل السياق، بقصد التضليل”. غير أن الوكالة العتيدة (1851)، وهي تُشهر إقراراً بوقوعها في هذا الفعل، لم تعتذر للمشتركين في خدماتها. تماماً كما عندما “سحبت” (أيضاً) في يوليو/ تموز 2017، خبراً عاجلاً عن تقديم ستّ دول عربية طلباً للاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) سحب تنظيم مونديال 2022 من قطر، “لأن الموقع الذي استندَت إليه القصّة قال إنه لم ينشُر المعلومات المنسوبة إليه”. (وهناك حالاتٌ أخرى “سحبت” فيها الوكالة أخباراً بثّتها). وبذلك، يصير “تضليلاً” ما أشاعه معلقون متعجّلون (في الأردن خصوصاً) إن “رويترز” اعتذرت عن خطأ وقعت فيه، فهي لم تفعَل هذا، لسببٍ يخصّها، لكن الراجح أنها تعتبرُه كافياً إشهارَها سحب خبر “مضلّلٍ” أو “زائفٍ” أو “لا دليل عليه” أو “ساخرٍ” (أو أيٍّ من أحكامها التسعة)، فلا مدعاة لاعتذار، سيّما وقد نعتتْه بالحكم المناسب. وبهذا، ليس في محلّه أن تُطالَبَ أي محطة تلفزيون أو وسيلة إعلام بالاعتذار إذا كانت ممن بثّت خبر رويترز (المستعجل جداً)، فكافٍ منها أن تنشُر تالياً خبر سحبِه، سيما أن وسائل إعلام بلا عدد بثّت “الخبر المضلّل” كما وصل إليها.
الدرس المهم في إذاعة وكالة الأنباء العالمية (55 ألف عامل في 200 مدينة في 94 دولة) أن إقرارك بتضليلٍ وقعتَ فيه، وإعلانك هذا (واعتذارَك إذا شئت)، لا يخصم من شخصك واعتبارِك، فقد ظلّت مكانة “رويترز”، الرفيعة، على حالها، بعد سحبها خبرَها المضلّل، والذي للحقّ أربك استقبال موقف الملك عبدالله الثاني الرافض تهجير أهالي قطاع غزّة إلى الأردن ومصر. … ليس مأثوراً من جمهور واسع من المشتغلين في الإعلام، عرباً وأجانب، أن يقرّوا بأنهم أخطأوا في معلومةٍ بثّوها، أو نشروها، أو بنوا عليها مواقف وأحكاماً وآراء. وهذا موسم التضليل المهول الذي ما زال أهل القرار في السلطة الفلسطينية والقائمون على حركة فتح ونظراؤهم في هيئات منظّمة التحرير يشنّونه على اجتماع المؤتمر الوطني الفلسطيني في الدوحة دليلٌ صارخٌ على الاستسلام لمعلوماتٍ منقوصةٍ وافتراضاتٍ مسبقةٍ وطرائق تفكير بائسة، من دون أن يكلّف واحدٌ من هؤلاء نفسَه تدقيقاً في الذي يقولُه، وفي تلقّي المعلومات من مصادرها بعين من يريد أن يعرف ويتعرّف، لا بعين المتوثّب المستنفَر. ونادراً ما تُصادف زملاء في مهنة الصحافة (أو كتّاب مقالات الرأي) من أبلغ قرّاءَه بتراجعه عن موقفٍ بناه على معلومةٍ تبيّن خطأها. ولمّا كنتُ قد جئتُ على هذا الموضوع في سانحةٍ سابقة، أكرّر هنا المثل: أنَّ المقرّر الخاص السابق للجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، ريتشارد فولك، أشهَر، في العام 2009، اعتذاره عن “أي أذىً غير مقصود” ربما تسبّب به لأسرة الرئيس محمود عبّاس”، نتيجة تكراره “مزاعم بشأنه غير صحيحة كان قد صرّح بها”، بحسب تعبيره.
يحسُن أن تستوقف واقعة “رويترز”، على هامشيّتها كما قد يراها بعضُنا (ربما ليست كذلك)، كثيرين منّا، ذلك أنها تؤكّد قيمة إشهار المخطئ أنه مخطئ، عندما يتيقّن من حاله هذا. ونحن، في مهنتنا، إعلاميين، يحدُث أن نُخطئ، لتعجّلٍ أو سهواً أو لثقةٍ في مصدر أخطأ، يُفترض أن نكون في مقدّمة من يتبيّن الصحَّ من الغلط، ويحرص على الدقّة والموثوقيّة الشديدتيْن في عملِه، لما لهما من شديد الوجوب، ليس من أجل ثقة الجمهور العام فحسب، بل من أجل احترام النفس أيضاً. ومن غرائب مشهودةٍ أن نجوماً في مهنة الصحافة، وأساتذة فيها، نادراً جداً أن بادرَ أحدٌ منهم إلى الجهر بشيءٍ من هذا. ومن غرائب راهنةٍ أن صحافيين أردنيين كانوا محقّين في استهجانهم خطأ “رويترز”، في معرض توضيحاتهم قول الملك عبدالله الثاني في ضيافة ترامب، إلا أنهم كثيراً ما يرتجلون أضاليلَ بكل انتفاخ، وثقةٍ فارغةٍ بالنفس وفيرة…
المصدر: العربي الجديد