” أُكلت يوم أُكل الثور الأبيض ” أصبحت من أكثر المقولات التي تكثف اليوم وجع ويأس السوريين مما يجري في جنوب سوريا، وقياساً به ما شهدته حلب والغوطة وجنوب دمشق وريف حمص الشمالي، والقلق المسيطر على مستقبل إدلب وريف حلب الغربي والشمالي، ومنه على كل ما تبقى للثورة في قادمات الأيام.
المقولة تلك يرددها من قرعوا جرس الخطر قبل وقوعه، وحين كانت الحقائق على الأرض تُكذّب أوهام كل من رهنوا مصير الثورة بإرادة القوى الخارجية، ومن انخرطوا في المسارات السياسية والتفاوضية، دون امتلاكهم رؤية ومشروع وطني لحماية الثورة والدفاع عن ثوابتها وأهدافها.
في مثل هذه الأوضاع التي تشبه حركات “لعبة الدومينو” من حيث سرعة التآكل في مواقع الثورة، وانهيار الخطوط والمربعات الضامنة لوجودها على الأرض، لابد أن تطغى مشاعر الخذلان وروح الانكسار على المشهد الحالي. بالتوازي مع حالة الفوضى والتخبط في التعامل مع حالة التراجع والخسران على كافة المستويات، لاسيما أن فقدان الثقة لدى مجتمع الثورة من حوامل وطنية إنقاذيه، يُضاعف من انغلاق الأفق بصورة لا سابق لها منذ اندلاع الثورة.
الأزمة الحادة بهذا المعنى ومع توقع أسوأ السيناريوهات فيما يخص إدلب وريف حلب، تضع كافة قوى الثورة على محك وجودي، لن يُغير تشتت وتفكك تلك القوى سوى من وطأته وثقله عليها. فيما أن النقاش والبحث المطلوبين، لوقف مسلسل التراجع والهزيمة، يستوجب بالضرورة روافع وطنية وسياسية، تتصدى فعلياً لمهام وقف الاستنزاف الذي أصاب مجتمع الثورة، وهذا يحتاج بدوره إلى خطة طريق جديدة للخروج من المحنة التي تواجه سوريا برمتها. بالطبع لا يمكن تحقيق ذلك بذات العقلية والأداء اللذين طبعا مؤسسات الثورة والمعارضة في المحطات السابقة، وليست الحالة القائمة بمشكلاتها المزمنة، مما يحتمل تجريب من كانوا عناوين للفشل في إدارة الصراع مع النظام وحلفائه. إنها المرحلة التي تنادي كل أبناء الثورة الذين بقوا متمسكين بمشروع إسقاط النظام ورفض المصالحات القسرية، ولم ينخرطوا في لعبة المساومات على حقوق السوريين ووحدة أرضهم وشعبهم. إذ أن نقد وتجريم من أوصلوا الثورة إلى هذه المآلات الكارثية، لن يكون ذات جدوى إذا لم يقترن ذلك بالعمل على ولادة بديل وطني يُعيد رسم استراتيجية كفاحية، ترتكز على أرضية وطنية، تضم كافة السوريين التواقين للحرية والخلاص من الاستبداد والظلم بمختلف أشكاله. ثمة عوامل ومناخات مهيأة لولادة ذاك البديل، بعد ما اختبره السوريون من انتكاسات وهزائم على أيادي من تصدروا المشهد السياسي والعسكري، ولأن التسليم والاستسلام لبقاء نظام الإجرام الأسدي، كما تعمل عليه الدول التي حمته من السقوط طيلة السنوات الماضية، يعني حكماً إعادة شعب إلى حظيرة الموت والذل والخضوع، وهو ما لم ولن يقبله السوريون بعد كل الظلم والقمع والتنكيل الذي تعرضوا له.
إن إعادة تصحيح مسار الثورة وتصويبه بعد كل الانحرافات والاختراقات، التي ألمت به من قِبل أصحاب الأجندات المعادية لتحرر وتحرير الشعب السوري، وبناء دولة الحرية والعدالة والمواطنة، يتوقف وجوباً على استجابة فئات كثيرة من الشرفاء والمخلصين، لنداء الانخراط العملي في إنقاذ مشروع الثورة، وفتح آفاق استمرار الصراع برؤية وطنية استقلالية، تنطلق من الواقعية السياسة لاستنهاض الواقع، وليس لتبرير شروط الفشل والاستسلام. لا يعترينا أدنى شك في ” تجمع مصير ” أن الفرصة سانحة أكثر من أي وقت مضى لتوحيد الجهود والمقاربات نحو تلك الرؤية، فالانكشاف الفاضح الذي نعيشه اليوم للسياسات الخاطئة والمواقف الانتهازية والمحصلات المأساوية، يشكل محفزاً لإطلاق مبادرة ثورية جماعية، تنبع من صميم الوجع السوري، ومن تطلعات السوريين الأحرار، وتشكل الحامل الذاتي لإرادة التغيير التي ضحى شعبنا من أجلها بأجود وأغلى ما لديه. لا وقت للتراخي وانتظار المعجزات، وتشييع روح الهزيمة هو مقتل الثورات ووأد تضحياتها، ولا سبيل لقضية عادلة بمثل هذا السطوع، سوى بوجود مدافعين حقيقيين وأقوياء عنها، وهذا أوانهم ولا عذر لمن يقف على الرصيف.