قامت الثورة السورية في ظروف الربيع العربي، وتحولت من ثورة شعب لانتزاع الحدّ الأدنى من الحريّة إلى صراع متعدد الأطراف، وتداخلت فيه كل القوى الإقليمية والدولية، وذلك لإعادة تأهيل النظام وإعادة الشعب الثائر إلى حظيرة الطاعة، وتحت قمع منهجي لا يوصف، ولم يسبق له مثيل في تاريخ البشرية.
لكن المشكلة الرئيسية التي ظهرت ليست في أعداء الثورة أو في من يدّعون أنهم أصدقاؤها، بل في طريقة تفكيرنا وتفاعلنا مع أحداث هذه الثورة، وكيفية انجرافنا إلى حضيض الترّهات والتفاهات والصراعات الداخلية، والتي استطاع اعداؤنا أن يستثمرونها أقصى استثمار، وينهوا من خلالها شيئاً فشيئاً الحلم – حلم الثورة المفقود والذي كان الهدف الرئيس للثورة.
لقد تحوّلت معظم هذه القوى إلى عدّة اتّجاهات، وانحرفت عن الطريق الأساسي لإنهاء النظام، وبدأت بصراعات داخلية تصل إلى مرحلة الدموية أحياناً، وبالتالي صدّر النظام للعالم هذه الصور على أنه أفضل الشرور الموجودة، وعلى الأقل له رأس واحد يمكن التفاهم معه.
ويمكن تصنيف المجموعات التي أمسكت بزمام الثورة على الشكل التالي:
- مجموعات مسلحة تبحث عن حلول فردية لحلّ مشاكلها، وتوجه كلّ قوّتها لأغراض مناطقية أو فئوية أو عشائرية، وتمجّد الأفراد والجماعات، وليس لها أي علاقة بالثورة أو أهدافها.
- مجموعات مسلّحة تبحث عن أمجاد شخصية أو انتقام من فئة أخرى، والسيطرة على مناطق نفوذ، ووضع مشروع خاصّ بها يخدم أجندتها.
- مجموعات مسلحة ذات تفكير إيديولوجي (ديني – طائفي – عرقي) وله أيضاً برامج معيّنة قد يتقاطع أو يتضارب مع مصلحة الثورة.
وجميع هذه الفئات مرتبطة بشكل أو بآخر مع داعمين يوجّهون هذه الثورة من الخارج، ويوزّعون الأدوار وفق مصالحهم، ويدّعون أنّهم يساعدون الثورة، ولكنهم في الحقيقة يتحكّمون بها، بل يجعلونها قطع شطرنج ويحرّكونها في الوقت المناسب لخدمة مصالحهم.
وتبقى هناك بعض الحركات العسكرية التي تحاول إنشاء مشروع مستقلّ يخدم الأمّة، ولكن هذه الحركات عملياً غير مدعومة من الخارج، وتحاول أن تبني نفسها وتضع برنامج يخدم الأمة، ومع أنّ الأغلبية تتمنّى نجاح هذا البرنامج، فإن هذه الغالبية لا تساعد هذه الحركات ولا تقف معها بحجّة أنّها فقيرة وغير واقعية، وأن الحياة تتطلّب مزيداً من الدعم المادّي الذي لا غنى عنه.
لذلك فإن الحلم الذي خرجت من أجله الثورة السورية أصبح مفقوداً، وأصبح الغالبية يبحثون عن حلول فردية لمشاكلهم، وتناسوا الهدف الرئيس الذي سقط من أجله أكثر من مليون شهيد، ودمرّت معظم المدن والقرى وتراجعت البلاد عشرات السنين، بل إنّنا متّجهون إلى الهاوية إذا لم نفرمل العربة التي تتحكّم بها الدول والأمم من خارج البلاد، وذلك للأسباب التالية:
- رفضنا للآخر مطلقاً، وعدم قدرتنا على القبول به مهما كانت درجة الاختلاف معه بسيطة، وهنا لا نتحدّث عن الخلاف الجذري.
- حبّ السلطة والتسلّط، الراسخ فينا، وهو من العيوب الكبيرة الفاضحة.
- الادّعاء بالمعرفة بكاّفة الأمور، وعدم الاعتراف بالأخطاء، وبالتالي الغوص في رمال الكذب والخداع حتّى يصل الرمل إلى الرقبة، وعندها لا ينفع الندم.
- عدم استثمار الموارد المتاحة، والبحث عن الحلول من الخارج، والاعتماد كلياً على الدعم الخارجي.
- عدم وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، واعتماد مبدأ المصلحية حسب الحالة (أقارب – أصدقاء – ثوريين …)، وبالتالي تفشل معها المؤسسات والمشاريع المبنية على هذا الأساس.
أمام كلّ هذه التحديات، كان لا بدّ من إعادة النظر في الأمور السابقة، وهي ليست بالمستحيلة وأغلبها نستطيع أن نتحكّم بعناصرها، وإذا وضعنا مشروعَ إعادة تأهيلٍ وتقييمٍ لأنفسنا، وفتحنا صفحة جديدة، فإنّنا قادرون على التحكّم بالعربة وإعادتها إلى الطريق الصحيح.
وهذا يتطلّب قرارات جريئة تبدأ بمحاسبة الذات قبل الآخرين، قبول الآخر، إعادة تأهيل المؤسسات ذات القوانين والضوابط واحترامها وتطبيقها دون استثناء أحد مهما كان منصبه.
عندها يتمّ وضع مشاريع خاصّة بنا، يمكن تطبيقها بالاعتماد على الموارد المحلية (بشرية – مادية) للتخلّص من الدعم الخارجي، وبالتالي صناعة القرار المستقلّ وفرضه على الجميع وصولاً إلى الحلم المفقود.