- لا يوجد تعريف قانوني مُحدّد للمعتقل في القوانين السورية، وأقرب تحديد لهذا التعريف من الناحية العملية، ينطبق على المشمولين بارتكاب الجرائم السياسية، التي توسعت فيها المحاكم الاستثنائية التي أسسها الأسد الأب، والتي تطال المشتبهين والمتهمين بها بوصفهم “سجناء أمنيين” يسري عليهم قانون الطوارئ، الذي أطلق يد الأجهزة الأمنية، للانتقام من خصوم النظام ومعارضيه على وجه الخصوص، ولهدف عام وهو ردع السوريين بالحديد والنار عن ممارسة السياسة، خارج نطاق السلطة، وبمن يفكر المساس بخطوطها الحمراء.
قبل زمن الثورة كان يردد السوريون همساً عبارة “الداخل مفقود والخارج مولود” للتعبير عن الحقيقة المأساوية، التي تواجه كل من يتعرض لتجربة الاعتقال في مختلف مراحلها، فلا ضمانات قانونية تبدأ منذ لحظة التوقيف، ولا أصول قضائية في إجراءات التحقيق والمحاكمة، ولا حقوق للمتهم في توفير وسائل الدفاع القانونية عن نفسه. الأخطر من ذلك أن تهديد حياة المعتقلين بصورة مباشرة وجديّة، هي السمة البارزة التي جعلت الألوف منهم في عداد مجهولي المصير، بسبب إنكار السلطات لأماكن وجودهم، وإخفائهم بصورة ممنهجة. هذا ما كان عليه مصير عشرات ألوف السوريين خلال حقبة الثمانينات، ولم تكن المجزرة التي ارتكبها رفعت الأسد بحق سجناء تدمر عام 1980، الواقعة الدموية الحصرية في تلك المرحلة، بقدر ما كشفت حينها عن مستوى إهدار النظام، واستباحة أجهزته العسكرية والأمنية لكافة حقوق المعتقلين. من وحي تلك الحقائق التي ظهرت، وغيرها الأكثر مما بقيّ مسكوتاً عنه في جحيم السجون والمعتقلات الأسدية. لا أحد بوسعه أن يُقارب في سورية أوضاع المعتقلين، وفق المركز القانوني الممنوح لهم في القوانين الدولية، فلا اتفاقية حماية جميع الأشخاص من الإخفاء القسري، ولا اتفاقية مناهضة التعذيب وسوء المعاملة، ولا غيرهما من مواثيق وأعراف توجب حماية المعتقلين، في أوقات السلم والحرب. مما يأبه له نظام موغل في القمع والترهيب والإجرام، أسس منظوره الغاشم في التعامل مع المعتقلين، كأرقام بغض النظر عن جنسهم وأعمارهم، يخضعون لسياسات القمع والتنكيل، بوسائل شتى خارج نطاق القانون. اتضح بكل جلاء في زمن الثورة السورية، أن غالبية المعتقلين في سورية، هم أشخاص مختفين ومغيبين قسرياً، ينطبق عليهم هذا التوصيف، بسبب انعدام ما يدل على وضعيتهم القانونية، كمحتجزين ومختطفين لا يخضعون لإجراءات قانونية، ولا تنطبق عليهم معايير توقيف وحجز وفق الأصول القانونية. فهم عملياً تعرضوا لأشكال من الاحتجاز والاختطاف من قِبل عصابة تنتحل صفة الدولة، وتمارس باسمها عمليات إبادة بوسائل تعذيب وتصفية جماعية. ومع استبدال قانون الطوارئ عام 2011 بقانون الإرهاب، توغل النظام أكثر في وسائله المتّبعة حيال أعداد هائلة من السوريين الأبرياء ” تشير التقديرات إلى أكثر من مئتي ألف مختفٍ ومغيّب، في سجون أمنيةّ وسريّة تابعة له”. واظب وبصورة سافره على إنكار احتجازهم وأماكن وجودهم، وأغلق كل الأبواب أمام معرفة ذويهم بمصير أبنائهم. عدا من تتسرب أسمائهم في قوائم “شهداء تحت التعذيب” يبقى الجميع فعلياً على قوائم التغييب والتصفية. ينتظرون وربما يتمنون الموت، من هول التعذيب الذي يتعرضون له في جحيم أقبية وزنازين الأسد. يزيد من فظاعة قضية المختفين قسرياً، ومن حالة العجز والقهر التي يعيشها أهاليهم وذويهم، لجوء النظام كما فعل مؤخراً، بالكشف عن “قوائم الموت لأسباب طبيعية” كما يدّعي زوراً وبهتاناً، للتغطية والتدليس على جرائمه الدامغة، بقتل ألوف المُغيبين في سجونه بأشنع الأساليب الوحشية.
وفقاً لذلك، تحتم علينا قضية المختفين والمغيبين قسرياً، تبنى خطاب قانوني حيال أولئك الضحايا، يزيل أولاً الالتباس القائم حول الوضعية القانونية التي يجب النظر إليهم وإلى حقوقهم من خلالها. من أوجه ذاك الالتباس اعتبارهم وكأنهم “معتقلون “. بمعنى أن هوياتهم ووجودهم ومصيرهم معلوماً، وأن ذلك يفرض حصراً المطالبة بحقوقهم المنقوصة، والمحاكمة العادلة في مقدمتها. فيما أن واقع الأمر أنهم مختفون ومُغيّبون بقوة الإكراه، ولا يوجد أي سند قانوني لاحتجازهم، سوى سياسة إزاحتهم جسدياً ومعنوياً. بالقطع تؤكد الحقائق التي تم تسريبها ومنها ” ملف سيزر ” ذائع الصيت، وغيرها من شهادات المفرج عنهم، أن ما يتعرضون له من مجازر جماعية فظيعة، على يد مسؤولي النظام ومرؤوسيهم من محققين وسجّانين وجلادين وأطباء وممرضين، ترقى بمجملها إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بدلالة الانتهاكات الأشد خطورة بحق ضحايا الإخفاء القسري، وفق تصنيف القانون الدولي لتلك الجرائم ومن أهمها ( القتل العمد – التعذيب – التجويع – الاغتصاب – الحمل والتعقيم القسري.. )
لعلّ من أولى موجبات الدفاع عن ضحايا الإخفاء والتغييب القسري، ما يحثنا على تعيين الخطاب القانوني الواضح، حول تكييف نوعية تلك الجرائم الدولية الخطيرة، لتعريف العالم من الناحيتين القانونية والأخلاقية، بحجم مسؤولية النظام وأجهزته الأمنية المافياوية، عن ارتكاب تلك الجرائم بحق فئة سورية كبيرة، لازال المجتمع الدولي ومؤسساته المعنيّة، ممتنعون عن القيام بواجباتهم أيضاً، في ملاحقة ومعاقبة المسؤولين عنها، وفق مسارات القضاء الدولي. فمن الأهمية القصوى إظهار الآثار الإنسانية الراهنة والمستقبلية، على استمرار تغييب العدالة عن ضحايا الإجرام الأسدي. إذ لم يعد ممكناً أو محتملاً السماح لادعاءات النظام الباطلة “عن حرب فرضت عليه وقوع ضحايا عن طريق الخطأ ” بالعبور إلى الآذان، ومن المؤلم حقاً أن آذاناً كثيرة تستسيغ مثل تلك الادعاءات الكاذبة، التي يُنكر النظام من خلالها الجرائم المروّعة التي ارتكبها بحق السوريين، لأنهم طالبوا بنيل حريتهم وكرامتهم. من الوفاء لمن ضحوا كي نحيا أحراراً، أن ننقل صرخاتهم المكتومة، بوسائل وأدوات مؤثرة وفاعلة، نخاطب من خلالها العالم، كي يخرج عن صمته ولامبالاته، ففي كل لحظة تتعرض ضحية ما في زنزانة ما إلى الموت، وفي كل لحظة لا نقوم فيها بواجبنا في الدفاع عن حقوق من ينتظرون الخلاص على أحر من الجمر، فنحن أيضاً لسنا بمنأى من المسؤولية في إيقاف مقتلة القرن الحادي والعشرين، التي توجب علينا العمل المؤسساتي المنظم، لكسر جدار الصمت الدولي، حيال صرخات ومعاناة ضحايا الهولوكست الأسدي، وكي تتوج مسيرة الدفاع عن قضيتهم، بأثر ملموس في إنقاذ البقية الباقية من جلاوزة العار.
مالك ونوس لدى المقاربة الحقيقية لجذور إجرام دولة الاحتلال الإسرائيلي لا يمكن فصل هذا الإجرام بحق الشعبين الفلسطيني واللبناني أخيراً،...
Read more