حتى الآن لا يوجد في المعطيات السياسية ما يفيد بتوفّر حالة من التوافق الدولي والإقليمي على إنهاء الصراع في سوريا، واستعادة الاستقرار لهذا البلد، رغم أن الجميع يتحدث عن ذلك، ولا سيما روسيا، التي تعتبر، أو تجزم، بأنها استطاعت إنهاء نفوذ فصائل المعارضة العسكرية، وإيجاد حال من التسويات والمصالحات في أكثر من منطقة، وتمكين النظام من استعادة سيطرته على حوالي 60 بالمئة من الأراضي السورية، أي ما عدا الشرق والشمال الشرقي، حيث الولايات المتحدة وحلفائها، والشمال الغربي حيث تركيا وحلفائها.
هذا ما يمكن استنتاجه خصوصا من اللقاء، البالغ الأهمية، الذي عقد في جنيف (23/8) بين مستشار الأمن القومي الأميركي جون بولتون ونظيره الروسي نيكولاي باتروشيف.
فما رشح عن هذا اللقاء يبيّن أن الفجوة مازالت واسعة بين الجانبين، كما يبين على نحو لافت للأهمية، أن الولايات المتحدة مازالت على مواقفها بشأن عدم مساومة روسيا على أيّ مسألة، أي عدم تمكينها من استثمار وجودها في سوريا، إلى مكاسب سياسية في أماكن أخرى، أو في ملفات أخرى، لا سيما أن لروسيا العديد من المطالب من الولايات المتحدة، تشمل تخفيف الضغط عليها في المسألة الأوكرانية، والانتهاء من سياسة “الدرع الصاروخي”، ووضع حد للتلاعب بأسعار النفط وتخفيضها، ورفع العقوبات التكنولوجية المفروضة عليها.
ومن متابعة المعطيات السياسية، أو المداولات الحاصلة بين الجانبين الأميركي والروسي، في هذا السياق، يمكن ملاحظة أن الولايات المتحدة تشتغل على اعتبار أن روسيا توّرطت عبر انخراطها العسكري المباشر في الصراع السوري، ظناّ منها أن ذلك قد يعزّز مكانتها أو قدرتها التساومية إزاء الولايات المتحدة في ملفات أخرى؛ هذا أولاً. وثانياً، أن روسيا أحوج ما تكون إلى جهود الولايات المتحدة لمساعدتها على الخروج من هذا المأزق، الذي كانت الإدارة الأميركية شجّعتها عليه لإغراقها فيه.
والمعنى أن روسيا لن تستطيع استثمار تدخّلها في سوريا، سياسيا ًأو اقتصادياً أو أمنياً، بسبب ضعف قدراتها، أو أن الولايات المتحدة لن تمكّنها من استثمار ذلك، أي استثمار ما تعتقد أنه ورقتها، في سوريا. ثالثاً، إن الوضع الراهن يفيد، أيضاً، بأن الولايات المتحدة تشتغل على تحويل ورقتي الضغط اللتين تلوح بهما روسيا، وهما إعادة اللاجئين وإعادة الإعمار، باعتبارهما وسيلتيها للضغط على روسيا ذاتها، إذ لا تستطيع روسيا تأمين الحد الأدنى لمتطلبات إعادة الإعمار، كما لا تستطيع في ظروف عدم الاستقرار إعادة اللاجئين.
رابعاً، تبعاً لكل ما تقدم فإن كل الكلام عن توافق دولي وإقليمي على استعادة الاستقرار والإعمار وعودة اللاجئين إنما هو مجرد أمر مبكّر، ونظري، لافتقاره إلى التوافقات السياسية والإرادة الدولية والإقليمية المناسبة والمواتية، كما لافتقاره الإمكانيات الضرورية اللازمة.
على أي حال فإن الإدارة الأميركية، من وجهة نظر معيّنة، في الموقف السليم، ولا سيما من وجهة نظر المعارضة السورية، وذلك بتركيزها، أولاً، على إنهاء النفوذ الإيراني في سوريا، وفرض عقوبات مشددة على إيران، ورفضها أي مساومة في هذا الشأن، وهو ما تبين من تصريحات بولتون التي أعلن فيها رفضه لمقترحات روسية بهذا الخصوص، تتعلق بوقف العقوبات على صادرات النفط من إيران، المقررة في نوفمبر القادم، مقابل تحجيم نفوذها في سوريا، بإبعاد قواتها وميلشياتها عن الحدود مع إسرائيل فقط. وثانيا، اشتغالها على إنهاء نفوذ “داعش” في الأراضي السورية.
وثالثا، بتأكيدها على استعادة الاستقرار، والإصلاح الدستوري، والتغيير السياسي قبل فتح ملفات إعادة الإعمار وعودة اللاجئين.
وقد يجدر التنويه هنا بأنّ تلك المواقف تستمد أهميتها من اقترانها بتحركات دولية مع أطراف أخرى سيما ألمانيا وفرنسا وبريطانيا، إضافة إلى بعض الدول العربية، كما من اقترانها بالتواجد عسكريا على الأرض في شرقي الفرات مع قوات عسكرية من بلدان أوروبية أخرى، في منطقة تعتبر بأنها الأغنى بالموارد بالنسبة لسوريا، جاعلة منها بمثابة خط أحمر يحظر تجاوزه على النظام وحلفائه (روسيا وإيران).
بيد أن وجهة النظر هذه مازالت بحاجة، أيضاً، إلى المزيد من المعطيات التي يمكن أن تضفي عليها المصداقية، لأن الولايات المتحدة لا تقوم بأي شيء عمليا من أجل فرض أجندتها تلك، مكتفية بمجرد تصدير المواقف، وضمن ذلك تهديد النظام من احتمال استخدامه مجددا للسلاح الكيماوي في إدلب، في حين تترك لروسيا اللعب في الميدان، وفرض وقائع جديدة فيه، تصب في مصلحة النظام، مكتفية، أيضاً، بأخذها منطقة شرقي الفرات والتموضع عسكرياً فيها بانتظار اللحظة المواتية، التي لا يعرف أحد متى تأتي عند صانع القرار الأميركي، أو كيف ستأتي.
والسؤال، كم من الوقت تم تضييعه، أو كم من الضحايا ومن الخراب ومن التشريد الذي حصل، والذي ما كان ليحصل، لو تم فرض نوع من حظر جوي في بعض مناطق سوريا، على مثال الوضع الذي قامت الولايات المتحدة بفرضه منفردة منذ فترة في شرقي الفرات؟
المصدر: العرب