أول شرط للأمل في الشرق الأوسط هو أن تفهم مجموعة كبيرة الحجم من المتحاربين أن الحرب لا يمكن كسبها: لا يستطيع أي من اللاعبين أن يسود، لكن كل لاعب يستطيع أن يحرم الآخرين من الانتصار. والمتطلب الثاني هو أن تتفق هذه المجموعة من المتحاربين السابقين أو الأمراء الخارجيين، لدى دخول المفاوضات، على ضرورة تحييد قضية الدين: حيث تتخلى كافة الأطراف عن ادعاءاتها اللاهوتية بامتلاك “الحقيقة” عن طريق فصل الدين عن السياسة.
* * *
قبل 400 عام بالضبط من هذا العام، قام البروتستانت في براغ بقذف ممثلي “الإمبراطور الروماني المقدس” من نافذة في الطابق الثالث. وقد نجا الثلاثة جميعاً، إما لأنهم سقطوا على كومة من الروث (النسخة البروتستانتية)، أو بفعل تدخل إلهي (الكاثوليك). وليس في الأمر شيء كبير، كما قد يعتقد المرء.
لكن قذف هؤلاء الناس من النافذة آذن بانطلاق سلسلة من الأحداث التي ما كان أحد ليتوقعها، بطريقة ما تزال محيّرة حتى اليوم. والنتيجة: على مدى ثلاثين عاماً، ظلت الإمبراطورية الرومانية المقدسة للأمة الألمانية -ألمانيا اليوم إلى حد كبير- ساحة معركة متواصلة. ومات في القتال نحو واحد من كل ثلاثة من مواطنيها -وفي بعض المناطق مات اثنان من كل ثلاثة.
ولكن، في ذلك الحين -قبل 370 عاماً، وبعد خمس سنوات من المفاوضات الشاقة- تمكن أمراء وقوى أوروبا من إيقاف سفك الدماء بشكل دائم، ووقّعوا ثلاثة من المعاهدات الأكثر شهرة في التاريخ. وكان ما يدعى “السلام الويستفالي” السبب في وولادة نظام الدولة الحديثة. ويمكن أن تكون لذلك كله صلة خاصة بالنسبة لكل المعنيين بالشرق الأوسط اليوم.
هذه، على الأقل، هي الفرضية التي يعتنقها العديد من الساسة والمفكرين الألمان، الأكثر ميلاً إلى أن يكونوا أكثر معرفة بحرب الثلاثين عاماً من زملائهم الأنجلو-ساكسون مثلاً. وقالت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، مؤخراً، إن مقارنة الصراع الدائر اليوم في سورية بحرب الثلاثين عاماً “ليست غير ملائمة” كُليّة. وخلال خدمته السابقة كوزير للخارجية، كان رئيس ألمانيا الحالي، فرانك فالتر شتاينماير، قد كتب في مقال أن “السلام الويستفالي لا يستطيع أن يعطينا مخططاً جاهزاً للسلام في الشرق الأوسط، لكنه قد يعطينا -إذا بحثنا عن كثب في الأدوات والأساليب والأفكار، عن مخطط”. وقد خصصت الوكالة الألمانية الفيدرالية للتعليم المدني عدداً كاملاً من مجلتها العلمية المرموقة للخوض في هذا المبحث.
الدول الفاشلة والطائفية
وإذن، ما الذي يجعل عقد مثل هذه المقارنة مغرياً إلى هذا الحد؟ كبداية، نشب كلا الحريقين -حرب الثلاثين عاماً والحرب الأهلية السورية- في “دول فاشلة”، باستخدام المصطلح الحديث. وعلى النقيض من الملَكيات الفرنسية والإسبانية والإنجليزية، كانت الإمبراطورية الرومانية قد فشلت في مركزة السلطة. وبعد قرن من ذلك، سوف يقول فولتير إنها “لم تكن بأي طريقة مقدسة، ولا رومانية، ولا إمبراطورية”. وبالمثل، فإن سورية واليمن، وكذلك العراق ودولاً أخرى في المنطقة، افتقرت منذ الربيع العربي إلى وجود حكومات متماسكة.
ثانياً، يجلس الشرق الأوسط كله، كما كان حال أوروبا الوسطى في ذلك الحين، فوق خطوط من القسمة الدينية. في ألمانيا، كان “الإصلاح” قد أثار -وإنما لم يحل- الأسئلة الصعبة حول التوازن بين الكاثوليك والبروتستانت، سواء في الإمبراطورية ككل أو في داخل كل إمارة على حدة. وبشكل مشابه، ينقسم الشرق الأوسط اليوم بين الإسلام السني والشيعي. وبالقدر الذي يعتقده بعض المتقاتلين، فإنهم يقاتلون من أجل “الحقيقة” المطلقة، وبذلك تصبح التسوية أكثر صعوبة، كما يرى هيريفرايد مونكلر، أستاذ السياسة في جامعة هومبولت في برلين.
ثالثاً، الآن، وفي ذلك الحين، تشكل هذه الجغرافيا الطائفية منصة لسياسة القوة اللاأدرية للاعبين الخارجيين المحايدين إزاء الدين، والذين ينجذبون إلى الفراغ الناجم. بذلك، أصبحت حرب الثلاثين عاماً مواجهة بين القوى العظمى الإقليمية مثل النمسا، وإسبانيا، وفرنسا، والدنمارك والسويد. ويشكل الشرق الأوسط اليوم رقعة شطرنج للصراع بين المملكة العربية السعودية السنية، وإيران الشيعية -وإنما أيضاً لكل من تركيا، وإسرائيل، وروسيا، والولايات المتحدة.
تعمل هذه الطبقات من المصالح على تحريض الانقسامات الدينية. وعند نقاط مختلفة في القرن السابع عشر، كانت سكسونيا البروتستانتية تدعم الإمبراطور الكاثوليكي؛ وكانت السويد البروتستانتية تقاتل بنفس المقدار الدنمارك البروتستانتية؛ وهكذا. واليوم، تجد تركيا (السنية)، وروسيا (الأورثوذكسية)، وإيران (الشيعية) نفسها وهي تقف معاً في نفس الجانب (أي جانب الأسد) في سورية. وفي حين شهدت حرب الثلاثين عاماً مرحلة “بوهيمية” وأخرى دنماركية وثالثة سويدية، يبدو أن للصراع الراهن في الشرق مراحل فلسطينية، ولبنانية، ويمنية، وعراقية، وكردية وسورية، من بين أخريات.
رابعاً، لا يقتصر خوض حرب الثلاثين عاماً وحرب الشرق الأوسط اليوم على الدول فقط، وإنما تشارك فيهما الميليشيات الخاصة أيضاً. قبل أربعة قرون، شمل ذلك متعهدي الحروب الذين قادوا الجيوش. وهو يتراوح اليوم من مشاركة جماعات الثوار الكردية والسورية إلى الشبكات الإرهابية. وهذا الحضور من المستفيدين الذين تشكل الحرب بالنسبة لهم نموذجاً للأعمال التجارية، جعل الهدنة -في ذلك الحين كما هو الحال الآن- مراوغة وصعبة المنال، كما يقول السيد مونكلر.
مع ذلك، انتهت حرب الثلاثين عاماً في نهاية المطاف. وبذلك، فإن حرب الشرق الأوسط يمكن أن تنتهي أيضاً. فما هي إذن تلك “الأدوات، والأساليب، والأفكار”، التي يتحدث عنها فرانك-فالتر شاينماير، والتي يمكن أن يستعيرها صانعو السياسة اليوم من سلام ويستفاليا؟
خمسة متطلبات للأمل :
تعتقد إليزابيث فون هامرشتاين، الخبيرة في مؤسسة كوربر-ستيفتونغ الفكرية في برلين، بأن أول شرط مسبق هو أن تفهم مجموعة كبيرة الحجم من المشاركين أن الحرب لا يمكن كسبها: لا يستطيع أي من اللاعبين أن يسود، لكن كل لاعب يستطيع أن يحرم الآخرين من الانتصار. والمتطلب الثاني هو أن تتفق هذه المجموعة من المتحاربين السابقين أو الأمراء الخارجيين، لدى دخول المفاوضات، على ضرورة تحييد قضية الدين: حيث تتخلى الأطراف كافة عن ادعاءاتها اللاهوتية بامتلاك “الحقيقة” عن طريق فصل الدين عن السياسة.
المتطلب السابق -والدرس- الثالث، هو أن يتفق المتفاوضون على منح عفو عام عن كل الفظاعات والمظالم التي حدثت سابقاً. ومن الصعب تصور مثل هذا في الشرق الأوسط اليوم، لكن حاله كان كذلك في ألمانيا بحلول الأربعينيات. وقد أظهرت ويستفاليا أنك لا يمكن أن تحصل على السلام والعدالة في الوقت نفسه.
رابعاً، هناك حاجة إلى إنشاء مؤسسات إقليمية جديدة لمعالجة النزاعات من خلال التحكيم بدلاً من العنف. وفي الإمبراطورية الرومانية المقدسة، اتخذ هذا شكل هياكل كونفدرالية (ليست مختلفة عن الهياكل الماثلة اليوم في الاتحاد الأوروبي). وفي الشرق الأوسط، سوف يتطلب الأمر إنشاء منتديات التحكيم هذه من الصفر.
وخامساً، على القوى الخارجية المذكورة أعلاه أن تضمن، كما فعلت مثيلاتها في العام 1648، تنفيذ معاهدة سلام يتم التوصل إليها بمصداقية، بحيث تراقب واحدتها الأخرى في نهاية المطاف وبحيث يلتزم الموقعون في المنطقة بالشروط. ويعني هذا أن على إيران، والسعودية، وتركيا، وروسيا والولايات المتحدة، أن تلعب أدواراً مشابهة لتلك التي لعبتها فرنسا وإسبانيا والنمسا والدنمارك والسويد في ذلك الحين. ويبدو كل هذا صعب التخيل اليوم. لكنه بدا كذلك أيضاً قبل أربعة قرون.
المصدر: صحيفة الغد