لم يعد كافياً كما اتضح في الواقع، أن نتعكز على ترسانة نظرية في خطابنا العام، لإظهار أن خيار الثورات في الدول العربية، كان حتمياً وضرورياً للانتقال إلى فضاءات الحرية. بل إن قوة الحقائق التي امتحنت تلك الترسانة خلال السنوات الأخيرة، أفقدت الكثير من بريق القول ووهج المعنى، وألقت كثيراً من الشكوك الكبرى، حول أهليتنا الفكرية والسياسية والأخلاقية، لبناء مشاريع تحرر حقيقية وبديلة عن قوى التسلط والاستبداد والفساد. انطلقت النُخب الداعية إلى التغيير وسلكت الطرق المؤدية إليه، وفق يقينيات محددة ومتخمة بإحالات تاريخية وراهنة، تُفسر من خلالها أسباب التراجع والإخفاق التي حالت دون تجسيد مشاريع التغيير في الواقع العربي. حتى من اجتهدوا كأفراد أو جماعات للخوض في اجتراح الحلول المناسبة، للخروج من حالة العجز إلى ممكنات العمل والنهوض، سرعان ما أثبتوا بما قدموه من أفعال وتجارب، أن ثمة عطب بنيوي في كيفية وسبُل نقل الأفكار إلى الواقع، لم ينجُ منه حتى أكثر دعاة الديمقراطية والحداثة والتحرر. كان مفاجئاً سرعة انفضاض من التقوا على رؤى وبرامج عمل، حال انخراطهم في تجسيد ما يؤمنون ويجتمعون عليه، غير أن الصدمة الأقوى في زمن الثورات على وجه الخصوص، كانت في قابلية انصياع طيف واسع، من حاملي لواء التغيير، إلى إرادة الدول الخارجية، واحتوائهم بأشكال مختلفة من الدعم والتمويل، كما بدا مكشوفاً للغاية في محطات الثورة السورية.
في لحظات قاتمة كالتي نعيشها اليوم، بعد حصاد مرير من الفشل المتتالي والمتراكم، لاتزال الوجوه المعروفة من قادة التفكير والرأي، والصف القائم على إدارة شؤون الثورات والمعارضات، على ذات الطريق الذي لم يحيدوا عنه في إشغال أنفسهم، بكل ما هو بعيد عن الاستجابات المطلوبة، للتحديات الراهنة والمستقبلية في كافة المجالات. يخرجون بين الفينة والأخرى لاسيما بعد كل هزيمةٍ سياسية أو عسكرية، بكيل من التحليلات والمواقف والأوراق، لا تغير اللغة الجديدة التي يبرع فيها أكثرهم إبحاراً في البلاغة والاستعارة والمجاز، من جدوى تدوير الأملاق في صيغ لا تقدم ولا تؤخر من وطأة الهزائم التي تتزاحم، ولا تُزيح قيد أنملة من البؤس واليأس الطافحين حياة المنكوبين، ممن يدفعون الفاتورة الباهظة لضياع مشاريع الثورات، بين أجندات ضالعة في المآسي التي حلّت بهم.
الوقوف على أوجه التناقض اللافت بين حجم الإسهال التنظيري، في مقابل تصلب الأزمات الوطنية وانسداد الأفاق، لازال مقترناً لدى الكثير من النخب العربية، تارةً بالإحالة إلى العوامل والصراعات الإيديولوجية بين تلك النخب، وتارةً بالولاء والاصطفاف السياسي لكلٍ منها. في الحالتين وغيرهما من أسباب تدل على ظاهرة التغطية على الفشل المزمن، بسيولة وصفيّة ونقديّة لأحداث الواقع وتبدّلاته، تتوارى المصارحة والمكاشفة حول المسألة الغائبة في هذا الضجيج العبثي، وهي محنة مجتمعاتنا التي أنتجت بتخلفها الحضاري والاجتماعي، البذرة الملائمة لنشوء وتوغل الاستبداد السلطوي بكافة أشكاله، وإنتاجها عبر دورة تاريخية من الفساد الذي نخر مفاصل حياتها، طبقة عريضة من الفاسدين المسيطرين على كافة مقاليد الشأن العام. حين اندلعت الانتفاضات والثورات العربية، خُيّل للكثيرين وله ما يبرره، أن قرار الشعوب العربية بالتخلص من أزمنتها السوداء، لا عودة عنه ولا رجعة فيه، وأنه يعكس وعي وتطلعات الكتلة المجتمعية الأكبر، وعليه جاءت التصورات والقناعات بضرورات إنجاز تلك العملية التاريخية المتأخرة، دون حسبان لجهوزية وقدرة تلك الكتلة، على حمل مسؤوليات جسيمة، تتطلب نضوجاً فكرياً وأخلاقياً، لتجسيد مشروع الحرية في ممارسة سياسية مُحصنة من أمراض الفساد. كلما حاول أحد أن يقترب من هذه المسألة التي كانت تفرضها أخطاء واضحة ونافرة، انكشفت مبكراً خلال المواجهة مع الأنظمة السلطويّة، كانت الإجابات جاهزة ومفعمة بالتشكيك إزاء كل من يحاول الإشارة إليها، أو لفت النظر إلى التركيبة الهجينة التي انطوت في ركاب الثورات، دون معايير وأدوات فرز واضحة وحاسمة بين صفوف الملتحقين بها. بالطبع كانت الأجوبة المألوفة مثل: (الثورات تنفجر بلا مواعيد، ولا يجوز التعامل معها كوصفات جاهزة، وبأنها تنظم نفسها وتبلور مشروعها وتنتج قياداتها مع الوقت..) بمثابة ردود دفاعية لدحض رواية الأنظمة ومؤيديها، الذين شككوا في مشروعية الثورات أساساً، خوفاً من التغيير الذي يتضارب مع حساباتهم ومصالحهم. استقت تلك الأجوبة أحقيّتها من تجارب تاريخية ومن دروسها البليغة التي تؤكد وعورة دروب الثورات، وما قد يعترضها غالباً من رياحٍ عاتية. بيدَ أن فئات الفاسدين التي التحقت بالثورات العربية لأسباب ودوافع عدة، وصلت إلى مواقع قيادية في أطرها ومؤسساتها من دون عوائق جديّة تعترض طريقها، طالما أن البنية الجديدة التي نهضت لتفكيك بنى الفساد الصلبة، لم تنتج وضعية تنظيمية قادرة على تأطير القوى الوطنية الحيّة، وإزاحة أولئك الفاسدين قبل أن يشتد عودهم.
والأهم أن قوى ورموز المعارضات التقليدية، هي أول من أرست عقلية المساومات والمقايضات، في تشكيل الأجسام المسؤولة عن تمثيل البنية الجديدة تلك. ففي الحالة السورية، رأينا كيف تساوقت قوى يسارية وديمقراطية مع مشروع أسلمة الثورة منذ بداياته، وكيف انخرط رجالات الفكر والسياسة في صفقات لتصعيد شخصيات إلى سدة قرار المعارضة، لا تاريخ ولا تجربة سياسية لها، سوى الولاء للدول التي تدعمها. بناءً عليه تعكس تلك الأمثلة مستويات الفساد السياسي والمالي، والتحالفات التي قامت لتكريسه في زمن الثورة، بين النخب والقوى التي تصدرت المشهد ودفة القيادة.
إذا كان من إخفاق لا يجوز إنكاره بعد اليوم، كي لا تبقى الثورات المضادة قدر الشعوب العربية، فهو تماماً في الفشل عن كبح منظومة الإفساد والفساد من اختراق الكيانات التي تمثل الثورات. وبدلاً من إيلاء التركيز والعناية على هذه المسألة الخطيرة، التي نجم عنها تراجعات وخسائر كبيرة، استحال بسببها الربيع العربي إلى خريف طويل. وبدلاً من وضع النقاط على الحروف، لمعرفة دور العامل الذاتي في استشراء الولاءات، وفشل الأحزاب والتيارات السياسية، بالتعبير عن مطالب التغيير بكل جديّة وأمانة. بقيّ استسهال التنظير بما لا يمس جوهر المشكلة والداء، تقليد الأنظمة عينه، والذي مضى على هديه من انخرطوا في لعبة الفساد تحت غطاء الثورات، سواء بانخراطهم المباشر فيها على اختلافاتهم الإيديولوجية، أو صمتهم ومواربتهم عن ماكينة التخريب، التي أقصت وهمّشت الأبناء الشرعيين للثورات. وفي أحسن الأحوال الدوران حول ذاك الداء المستشري، بعمومية وتعويم لا جدوى منهما، سوى برفع المسؤولية أكثر من موجبات تحمّلها، والاستعاضة عن ذلك بمزيد من اللغو الفارغ عن تشخيص المُشخص، واجترار سؤال ما العمل…؟ بلا توفر إرادة واعية وحرة هي شرط الإجابات المطلوبة عليه.
قصارى القول: عقلية الفساد وشبكات المصالح في أزمنة الثورات، هي البلاء والطامة الكبرى، التي تعصف بأنبل القضايا وأعظم التضحيات، وما يزيد من صعوبات وتعقيدات مواجهة المتورطين والضالعين فيها، حالة الفوضى والارتجال، التي يستغلها البعض للتخوين والتشكيك دون نواظم قانونية وأخلاقية، وبقاء منطق التعميم والتعويم في تناول ظواهر الفساد، الأسلوب الشائع للمواربة على أفعال الفاسدين وهوياتهم الحقيقية. في ضوء ذلك تكمن المهمة المُلحة التي يجب أن يلتف حولها وعليها، من أبت ضمائرهم التفريط بقيم العدل والنزاهة والاستقامة، وتشبثوا بقيم الحرية والكرامة، في إنقاذ الثورات من تجار القضايا الوطنية والإنسانية، ورفض استغلال الدين أو الأيديولوجيا أو الوعي النظري، ستاراً لتشويه تلك القضايا والنيل من عدالتها.