لم يكن محض صدفة أن تتكثف المساعي الصهيونية والأمريكية، لفرض ما يُعرف بصفقة القرن الرامية إلى تصفية الحقوق الفلسطينية، في الوقت الذي يشهد الواقع العربي أوضاعاً كارثية وتحديّات خطيرة، من أبرزها محاولات عرقلة وإفشال مسار الربيع العربي، وإجهاض تطلعات الشعوب العربية للتحرر من أنظمة القمع والاستبداد. لعلّ الثورة السورية أكبر مثال على حجم المعسكر المضاد، لمنع وصول السوريين إلى بناء دولة القانون والحريات، وهو ما يواجه الشعوب العربية الأخرى التي ثارت على أنظمتها وحكامها، ولم تتوقف التداعيات الكارثية الناجمة عن الصراعات والحروب عند حدود هذه الدول، فقد انكشفت حقائق الهيمنة والتبعية والضعف، التي طالت الدول العربية من المحيط إلى الخليج بصورة مُهينة ومؤلمة.
هذا الترابط بين ما يُعد للقضية الفلسطينية، من خلال السياسات الواضحة لشطب حقوق أهلها، وترتيب المنطقة العربية بما يمنع تحرر شعوبها، وتفكيك مقومات وشروط نهوضها، يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، أن فصل عرى العلاقة الجدلية بين قضايا التحرر العربية، يشكل هدفاً موحداً لكل القوى المعادية لحرية الشعوب العربية، وفي مقدمة هذه القوى الكيان الصهيوني والدول الداعمة له، والأنظمة العربية التي تلعب دور الوكيل، لحماية أمن ومصالح قوى الاحتلال والهيمنة الخارجية. تغييب أو تجاهل هذه العلاقة الجدليّة عن الوعي العربي، لاسيما لدى القوى والنخب الفلسطينية التي تصدت لإدارة الصراع مع الصهيونية من جهة، ولدى القوى والنخب العربية المنخرطة في عملية التغيير في أوطانها من جهة أخرى، كان له ثمن فادح ولايزال على استمرار حالة التآكل والاستفراد بقضايانا ومصائرنا المتشابكة. إن محصلات منطق فصل القضية الفلسطينية عن عمقها العربي، وتفكيك القضايا العربية عن بعضها البعض، أدى فعلياً إلى ضرب مسار الحرية والتحرر في بلادنا، ورغم أن الثورات العربية حملت بوجهٍ ما في توقيتها ومضمونها، الردود الشعبية الحرة على ذاك المنطق وأضراره الكبرى، غير أن العثرات والانتكاسات التي أصابت تلك الثورات، أدت إلى إضعاف وتهميش فكرة الخلاص المشترك. كان إشغال وإرباك أصحاب كل قضية بما يكفيهم من هموم ومشكلات، بالتوازي مع استغلال تيارات ما دون وطنية، وايديولوجيات مغلقة، لفشل تجارب التحرر على الصعيدين الوطني والقومي، البوابة العريضة التي دلفت منها، العديد من مشاريع التفتيت والتفكيك بمختلف أدواتها المذهبية والطائفية والجهويّة. لا يمكن حصر أو اختزال هذه المسألة بضعف التضامن بين دعاة الحرية والسائرين في دروبها، لأن جوهر المشكلة يكمن في غياب رؤية فكرية وسياسية، تجسد قيم التحرر وقوانينه الجدلية في علاقة المجتمعات العربية ببعضها البعض. بمعنى أوسع يتجاوز مثل هذا التحدي العاطفة القومية، لأنه يفرض فهم عميق لمجمل الروابط، والمحددات التاريخية، والمصالح الحيوية بين شعوب المنطقة، ولا يستوي التعامل مع هذا التحدي أيضاً لحل معضلات قومية وهوياتية مُتصلبة، دون ثقافة الاعتراف بالآخر، وتأصيل مفهوم الشراكة في بناء الأوطان على أسس جديدة. في ضوء دروس وتجارب الواقع، علينا أن نعترف أولاً أن ثمة وقائع عربية صارخة، تشير إلى تردي حاد في مسيرة التحرر، وتشظي متواصل في الحوامل السياسية والمجتمعية التي تستند إليها، من دلالاته الملموسة، الخلط والالتباس الناجمين عن اصطفاف ” قوى المقاومة والممانعة ” إلى جانب الأنظمة المُستبدّة، والاستغلال البشع الذي تمارسه تلك القوى، من جراء متاجرتها بالقضية الفلسطينية. فضلاً عن ذلك أصبح ارتهان العديد من نخب وقوى المُعارضة العربية، ودخولها في لعبة المحاور والإملاءات الدولية والإقليمية، عاملاً لا يجوز إنكاره في تمرير فكر تحرري هجين ومبتور. بيدَ أن معالجة مأزق التحرر وكيفية تجاوز عوامل التراجع والنكوص على صعيده، يتطلب بالضرورة كما نرى في ” تجمع مصير ” العمل على بناء منظومة فكرية وحركيّة، تُعيد إحياء ثقافة الحرية والتغيير، وتشبيك مشاريع التحرر من خلال مبادرات وطنية تفتح على الشعوب التواقة للخلاص، بحيث يمد كل منها الآخر بالقوة والإسناد والتكامل، في مواجهة قوى الطغيان والعدوان بمختلف أشكالها. لا نتوهم بصعوبات وعوائق إنجاز هذه المهمة الكبرى، ولا نستهين بحجم الخراب الذي طال بنى الواقع العربي، لكن لا خيار أمامنا لمواجهة التروس الداخلية والخارجية، التي تطحن وجودنا وحقوقنا وأحلامنا، سوى باستنهاض الإرادات الحيّة، وصياغة مفهوم تنويري وديمقراطي لوحدة قضايا التحرر، تجسده في الواقع تعبيرات شعبية وحوامل ملتزمة بالدفاع عن الحرية، وجبهة عريضة من أبناء الثورات والقابضين على جمرها. من هنا تستعيد مسيرة الحرية أصالتها وعنفوانها، ويصبح للثورات صداها بين الأحرار، من حلب إلى غزة ومن القاهرة إلى صنعاء، ويُفتح أمام نزعات التحرر والخلاص أفقاً يتجاوز الساحات والحدود والقيود.