لا تقتصر الحروب في تأثيراتها, على تدمير البنى المجتمعية والمدنية وإلحاق الأذى بأفرادها وحسب, بل تتجاوزها إلى ما هو أكثر خطراً على المدى الاستراتيجي, ألا وهو التحولات الثقافية الكبرى, التي تسلخ الانسان عن هويته بشكل شبه كامل, وخاصةً فيما يخص الوضع السوري, الذي يمتاز بتفوقه دوناً عن غيره بعدد الهجرات القسرية الكبيرة لأبنائه, وبحسب تقرير هيومان “رايتس ووتش”, فقد بلغ عدد النازحين داخلياً حتى آخر عام ,2015 حوالي 12.2 مليون نسمة, ولا توجد إحصائيات دقيقة فيما يخص النازحين خارج سوريا, ولكن بحسب آخر تقرير للمنظمة ، وصل عدد النازحين خارج القطر في نهاية عام 2014 حوالي الخمسة مليون, بينما تجاوزت أعداد اللاجئين السوريين إلى أوروبا حتى أواخر عام 2015 النصف مليون, وهذا بدوره وضع الهوية السورية أمام انشقاقات مختلفة وخاصةً في ظل غياب مرجعية سياسية وطنية واحدة.
الذي يهمنا في هذا المقام هو حجم الصدمة الثقافية التي تعرض لها أبناء الشعب السوري وخاصة فيما يتعلق باللاجئين الجدد نحو أوروبا.
إن مجرد الانتقال من بيئة سورية محلية إلى بيئة سورية أخرى يخلق تبعات ثقافية مختلفة تستوجب على الفرد أن يتكيف معها بصعوبة, وكثيراً ما كنا نصادف أفراداً قبل الثورة السورية تراجعوا عن الانتقال من مدينة سورية إلى أخرى بسبب تغير مشارب أهلها عن عاداتهم وتقاليدهم, ولكن بعد أن ضحَّى السوري بكل ما يملك وركب خطر البحر ليصل إلى الفردوس الأوروبي المزعوم, وجد نفسه مضطراً لأن يتكيف مع بيئة لا تمُت له بصِلة, ومع ذلك حدثت بعض الهجرات العكسية التي تعبِر عن مدى الصدمة الحضارية التي تعرض لها السوري, وفي هذا يقول “محمد الحمرا” وهو أحد العائدين من أوروبا: ” هناك لا شيء ملكك لا زوجتك لا أولادك, لن تستطيع أن “تمون” على أحد, يريدون أن أرسل أبنائي إلى معسكرات كلها تعري وفاحشة, عادت ابنتي وهي تبكي فقد أجبروها على السباحة مع الأولاد” ثم اختتم قوله ” مستعد عيش بتركيا شحاذ, ولا اخسر شرفي وديني بهديك البلاد”
لسنا في صدد أن نبرر حالة الملكية للمرأة والأبناء في كلام “محمد الحمرا”, لكن من الواضح أن الاشكالية تكمن في تساهل مؤسسات المجتمع الأهلي في بلاد اللجوء, بإعطاء الأمر حقه ووقته الكافي في محاولة الادماج رويداً رويدا, مما جعل الكثيرين ينقسمون على ذواتهم ويتخذون ردود فعل سلبية اتجاه المجتمعات الجديدة.
وفي هذا يؤكد “ناصر مقداد” مرشد اجتماعي, وهو من اللاجئين الجدد في ألمانيا, أن ما يحدث في عمليات محاولة الدمج هو إحضار متطوعين عرب, يتم توزيع بعض الكتيبات عليهم فيما يخص الارشادات اللازم على اللاجئ معرفتها من أجل التكيف مع المجتمع الجديد, ويتم القاءها في ساعات محددة من كل اسبوع”. وبرأي “ناصر” أن هذا غير كاف, وهو مقصود بالمحصلة بما يناسب مصلحة الدولة الأوروبية, ويتم التعامل مع الوافدين على أنهم أشخاص قادمون من بلدان الأطراف المتخلفة, وكل ما يخرج من أبناء هذه الأطراف هو متخلف وغير مقبول بالنسبة لدول المركز, والذي يرغب بالقدوم إلى أوروبا عليه أن يتقبل أوروبا وينسلخ من كل موروثه لأن الدول الأوروبية تعتبرنا في الدرك الأسفل من المعايير الأخلاقية ولا يمكنها تقبلنا كما نحن أو السماح لنا بأن نحافظ على جزء من هويتنا ولذلك يكون التركيز الأكبر على الأطفال والمراهقين.
الكثير من القصص التي تداولتها وسائل التواصل الاجتماعي إن كان فيما يخص ممثلي أفلام البورنو السوريين أو إحدى النساء اللاتي تتفاخر على اليوتيوب بأنها طردت زوجها وذهبت مع عشيقها أخيراً, وغيرها وغيرها .. تشير إلى أن القيم بدأت تأخذ منحىً مختلفًا لدى جميع فئات اللاجئين العمرية و”الجندرية”, وفي هذا تقول ريما مارديني, وهي موسيقية تعمل ضمن فرقة سورية في ألمانيا: “في البداية كنت أعتقد أني لن أتزحزح عن بعض الأشياء التي كنت أؤمن بها, لكن مع مرور بضعة أشهر وجدت أن أغلب ما أؤمن به كان وهماً, لهذا خلعت الحجاب مثلاً” وبرأي “ريما” أن كل التغيرات التي تحصل في القيم هي نتيجة لما زرعه المجتمع الأم, فلو كان لدينا –بحسب ريما- الحرية في الاختيار عندما كنا في سورية لما سقطت منظومة كاملة من تلك التي نسميها قيم, بهذه السهولة.
إن أكثر ما يضاعف أعداد اللاجئين في أوروبا هو إجراءات لم الشمل, التي تم تسريعها في الآونة الأخيرة, وعلى الشخص الذي سيتم منحه وثيقة السفر أن يخضع لعدة جلسات تقوم بها المفوضية السامية لشؤون اللاجئين, يتم من خلالها إعطاءه إرشادات عامة لمعرفة حقوقه وواجباته في البلد الذي سيفِد إليه, وبعد قيام “مصير” بإجراء مجموعة من المقابلات مع بعض النسوة اللواتي حضرن هذه الجلسات تبين أن المعايير المتبعة مع الخاضعين للدورات غير مدروسة ولا تحمل فهماً عميقاً للخلفية الاجتماعية القادمة منها تلك النسوة وبحسب (أميرة,د) وهي إحدى الخاضعات لهذه الدورات في مدينة غازي عنتاب التركية, تقول: “قام أحد الموجهين بشرح بسيط حول المجتمع الألماني, ثم ما لبث أن تطرق لقضايا تخص الحرية الجنسية وأن للزوجة كامل الحق في أن تختار علاقة مع شريك غير زوجها, وحق المرأة في أن تشتكي على زوجها إن أرغمها على القيام بعلاقة جنسية معها.” وبحسب أميرة فإن هذه المواضيع كانت في صلب كافة الحقوق التي تم تناولها, وبرأيها أن أغلب النساء اللواتي حضرن كنّ يعلمنَّ عن هذه القضايا ولم تصدمهنَّ الحالة بقدر ما أضحكتهن مع وجود بعض الاستثناءات التي تعاملت مع الموضوع باضطراب شديد.
ويرى صفوان قسام (مختص اجتماعي), “أن ردات الفعل هذه تختلف باختلاف مرجعية المتلقي, فبعض المتلقين يركزون على نقاط دون أخرى بسبب اضطرابات جنسية لديهم, -وهي مفهومة بالنسبة لمجتمعاتنا-, وسيقيِّمون الأفكار المطروحة من وجهة نظرهم بغض النظر إن كانت تطرح بشكل أكاديمي أم فوضوي, ومع ذلك لابد من تصنيف المهاجرين بحسب خلفياتهم الاجتماعية وعدم خلط الأوراق أو توجيه خطاب موحد للجميع, وقد نضطر في هذه الحال إلى توجيه خطاب خاص إلى شخص واحد مختلف, وخطاب آخر إلى عشرين آخرين متوافقين, وبرأي صفوان أيضاً أنه لا بد أن تركز الارشادات على اختلاف الآخر وتقبله من قبل الوافدين, قبل التركيز على حقوق الوافد, ومن الضروري جداً أن تشمل الارشادات ما يحفظ خصوصية الوافد إلى أن تصبح عملية الاندماج عملية تدريجية أما غير ذلك فستخلق هذه الارشادات ردات فعل عكسية أو مبالغ في تقبلها اتجاه المجتمع الجديد.
يطرح أمين معلوف في كتابه الهويات القاتلة حلاً يبدو أبسط مما نتخيل لتجاوز إشكاليات الصدمة الثقافية وهو لا يحتاج إلا إلى إرادة واعية لدى البلد المضيف ولدى المهاجر معاً, ويتلخص الحل بأنه كلما قبلت الدولة المضيفة ثقافة المهاجر كلما سرَّعت في عملية إدماجه وكلما استوعب المهاجر قيم الدول المضيفة كلما ساعده ذلك في الاندماج أكثر. إذاً هي عملية تبادلية تحتاج للقليل من التواضع والكثير من المهارات الاجتماعية التخصصية لإنجازه.