كانت من طراز دايو 1994 تسير بايقاع جنائزي، مما أكسبها هيبة تفتقدها سيارات الفرح، ولهذا تكتسب العربات الحربية ميزة الترهيب، لأنها وسيلة للموت لا للحياة. كانت عربة بصوتها المقرقع، وأطرافها المخدوشة، ومصابيحها الخافتة بلا أغطية حماية، تشق الطريق المعبد الذي تفسخ من ثقل عجلات العربات والمدرعات القاتلة .
كانوا خمسة في السيارة : السائق، و كهل و شاب و طفل و امرأة تحمل في أحشائها كائن اختارته النواميس الأزلية للمجيء في زمن الحرب.التفت الكهل الى المرأة و قال :
- هذا آخر حاجز و ننتهي.
طوقت المرأة بطنها بكلتا يديها كسور أحاط بقصر الملك، يمنت بعينيها نحو الخلف، انتابها قلق عميق، فللحرب قوانينه وللسلم قوانينه، وهذا ما دفع الكهل (أبا أيمن) أن يجلس بجانب السائق، وأن يُجلس الشاب الغريب مع طفل في الخلف بجوار زوج ابنه أيمن . جلوس الشاب في المقدمة يجلب الأنظار أكثر. يدفع المزيد من التوقف. هذا يعني تأخراً أكثر. وهم بحاجة لتسريع الوقت لا تبطيئه.
قال السائق:
- كانت الحواجز في السابق بين الدول، الآن بين قرية وقرية .
سبع قرى فقط تفصلهم عن تركيا، سبع قرى كأنها سبعة دول. كانت القرى الست التي مروا بها تتفقد السيارة والركاب والأشياء. انطلقوا في الصباح الباكر، وها هم يقتربون من الحاجز الأخير وقد أشرفت الشمس على المغيب.
توقف السائق حين مرت بقربهم سيارة ذات دفع رباعي مثبت على كبينها دوجتكا، لوح لسائق السيارة الرباعية مبتسماً و من ثم قال لركابه :
- من حسن حظكم الطقس دافئ اليوم، كما يقال بين كانون وكانون صيف ثاني.
التفتت المرأة نحو الخلف مرة أخرى، كانت القرية الأخيرة مرعبة حقاً، كانت قد تحررت لتوها من متمرد قاس جداً، اشتهر بمعاقبة النساء بالجري حول القرية صباحاً، و اللعب بالرؤوس المقطوعة مساءً. لكنها اليوم، باتت قرية خاوية على عروشها، لا شجر، ولا حجارة. تم تفخيخ كلّ البيوت، الإصطبلات وحتى مستودع تخزين السماد.
أشار السائق إلى تلة قريبة من الأسلاك الشائكة وقال:
- هناك على تلك التلة، في الشتاء الماضي، عُثر على رجل وطفل قد صرعهما البرد القارس.
تمسك الطفل الذي يفصل بين الشاب وبين المرأة بذراع الشاب مراقباً المكان الذي أشار إليه السائق. حمت المرأة بطنها بيديها كأنها تحمي الجنين من خطر محدق، كيف لا، وقد انتظرت مجيئه منذ سنوات وسنوات. تذكرت الأيام التي مرت بها على هذه القرى، تسأل كل شيخ فيها عن رقية، حجابٍ، دعاء، يفكّ باب رحمها ويبعد عنها صفة العاقر. كانت تحب أيمن حباً شديداً. وأصرت على الاقتران به رغم معارضة أهلها، فهي ابنة تاجرٍ وهو ابن فلاح. لكنها تزوجته، فقد هدم حبّهما حاجزَ الفروق الطبقية والاعتبارات الاجتماعية. كان يدرس الهندسة المدنية وكانت تدرس التاريخ. كانت تحلم بتحطيم الحواجز، وكان يحلم ببناء الجسور. حين تزوجا، أعلنا تحطيم الحاجز الاجتماعي الطبقي. واحتفلا ببناء أول جسر إنساني، انتظرا الطفل الذي يؤسس نجاحهما، ولكنه تأخر. ومرت سبع سنوات عجاف. لم يسكن أحشاءَها الطفلُ المنتظر مع قول الأطباء بسلامة كليهما ولا حاجز خلقي أو مرضي يمنع الحمل. كذلك قال المشايخ الذين دارت عليهم بعلم زوجها أو دون علمه، سراً أو جهراً، مع أمها أو خالتها أو حماتها قبل وفاتها. اكتشفت أن الحواجز أكبر من طاقتهما، وثمة حواجز تجعلك تنهار قبل أن تجتازها، كانت حواجز لا تتطلع عليها في كتبها، لم تكن تتصور تجذرها ورسوخها. تأخرُ الطفلِ المرتقب جعلها تتخلى عن الكثير من الأحلام وإن كانت تخدع نفسها بأنها تؤجلها، الـتأجيل ذاته حاجز كبير للتقدم، واستسلمت لحاجز قاهر يمنعها الانفراد بزوجها وقد شعرت باليأس، فبدأت تفكر من ستكون شريكتها مع زوجها.
حين اندلعت الثورة، وانشغل الناس بالثورة، فرحت بأنّها لم تحمل، شعرت بأن الحواجز تنهار دفعة واحدة مثل انهيار الحواجز تحت أقدام حصان أصيل. ست سنوات من الثورة صامدة مع زوجها الذي تركها حين حملت عند أهله، عاد إلى المدينة يدافع عنها، وهو الذي يقول إن كل البيوت بيته، وإن بيته الذي دُمّر في حلب الشرقية ليس أغلى من البيوت الأخرى التي تُدّمر على رؤوس أصحابها. كان الجميع قد غادر، وبقي هو مع زوجته، حتى أوشكت حلب على السقوط و قبل ثمانية أشهر، لما علم أنّ زوجته حامل زغرد من الفرح وكاد يطلق الرصاص في الهواء، لولا تذكره بأنّ الطلقات مخصصة للأعداء ولحماية بلده، فاكتفى بأن حملها وقال لها: “حلب ستشهد ولادتين… ولادة ابني الذي يحمل اسمي وولادة سورية التي نحلم بها “.
توقف السائق، ترجل، طاف حول السيارة شوطاً ثم وقف يتأمل صخرة سوداء بازلتية تفصل خطوط أرض زراعية عن جارتها وقال:
- أتدرون ؟!.. هذه الصخرة شهدت مصرع أجيال عديدة، وكلّ الصراع من أجل حفنة تراب، هذه أرضي وتلك أرضك . صخرة كانت تشهد عداوة أخوة وأولاد عمومة، وها هي اليوم تشهد ضياع بلد بأكمله.
عاد السائق إلى سيارته، وقبل أن ينطلق التفت إلى الشاب وقال له:
- هل مازلت مصراً على المتابعة؟
- نعم يا شيخ عباس، توكل على الله .
تأمل السائقُ الطفلَ الملتصقَ بالشاب، ثم فرك ذقنه موحياً بقلقه وارتيابه وقال:
- اسمع يا ولدي، أنت صديق الشهيد _بإذن الله_ ابني عدنان ورفيق دربه، وأنت الذي بشرني بخبر استشهاده، كنتم من أوائل الذين حققوا انتصارات، وكنت فخوراً وأنا أسمع منك كيف كان يقتنص دبابات الظالم على طريق مساكن هنانو حين دخل الثوار أول حي في شمال حلب من جهة الشرق في رمضان بداية الثورة.. كنت مزهواً بك وبرفاقك وبالضباط الأحرار الذين رافقوا الشهيد، وكانت كلمتك وأنت تخبرني كيف استشهد بعد أن عطب ثلاث دبابات مثل كرات الثلج تبرد قلبي المستعر على فراقه… ولكن الحاجز القادم ليس مثل كل الحواجز التي مرت بنا، هم يحترموني مثل كل الحواجز الأخرى، ولكن الأمرَ مختلف حين يعلمون بك. أعرف جلدك وعنادك ولكن تذكر لست وحدك .
التفت الشاب إلى الطفل ومسح على رأسه ثم قال:
- لقد تركتُ كل شيء شيخ عباس، ولا أظن أن الحاجز الأخير أسوأ من الحاجز الذي مررنا به، ثم لدي أمانة أريد أن أعيدها الى أصحابها
فما كان من السائق عباس إلا أن امتثل لإصرار الشاب وتابع المسير بصمت، بينما كان الكهل يرمقهما بنظرات الترقب والريبة مع سكون حروفه وصمته الكئيب .. ثم خلع السائق عن لسانه الصمت وقال بصوتٍ يعلوه البؤس:
- لست مرتاحاً، نسأل الله التيسيرَ…
ردد الكهل موافقاً وداعياً:
- رب يسر ولا تعسر.
لم تكن مسافة الوصول إلى الحاجز الأخير طويلة، دقائق فقط، لن تتجاوز الخمسَ بسرعة 60 كيلومتر في الساعة، ولكن كل دقيقة كأنها ستين ساعة، كم مرّ الشيخ عباس راجلاً بين هذه القرى، يحدثهم عن القيم العليا، ويذكرهم بالحياة الآخرة، نافحاً عطور لسانه في كل مكان يصل إليه .. كان ضابط فكره أن ذكر الموت هو لفهم حقيقة الحياة، فنحن نكره الموت لأننا نكره المجهول، فالموت هو الحاجز بين حياتين، كان يذكرهم بهدم الحواجز التي تمنعهم الوصول إلى الفضائل، إلى الطريق المؤدية للأمان …قائلاً إن العمل بقيم الإنسانية يرفع الإنسان مرتبة أفضل من مرتبة الملائكة … ولكن الموت اليوم بات عادياً، والحاجز الأسهل الذي يمكن اجتيازه، وبات النادر هو الحياة التي يعرفها الناس، فالحياة هي الحاجز الأصعب اليوم. كانت القرى الشمالية قد نسيت الألوان المتعددة التي ألفتها، فقد خيّم اللون الأسود طويلاً على هذه القرى، كان يحذر الأهالي والثوار من اللون الأسود، مثلما كان يحذرهم من اللون الأصفر أو الأزرق، ويقول إن الربيع متعدد الألوان، وألوانه بألوان الزهور التي تنبت في الربيع، وإن كان للثورة ربيع لا مكان للون الأسود فيه. وحين حل رجال غرباء توقف عن الدعوة، وتوقف عن الخطابة، وتوقف عن الحديث عن الزهور، توقف عن مهنة التدريس للعلوم الشرعية في الثانوية الشرعية في الناحية وبدأ يعمل سائقاً. لقد اختار مهنة التوصيل “النقل” كما يقول، فقد كانت مهنته وصل القلوب مع بارئها، واليوم مهمته وصل القلوب إلى أمكنة تتعرف فيها على خالقها .
سأل الكهلُ الشابَ :
– هل ستسقط حلب؟
نظر الشاب إلى الجهة التي كان يتصاعد منها دخان أسود
- لم تسقط ، بل اُسقطت.
- ماذا سيحدث للثوار هناك؟
- لا تقلق، هم أبطال، صامدون ولكنهم سيخرجون خلال يوم أو يومين لقد اتفقوا على إخراجهم .
الرسالة الأخيرة التي أرسلها أيمن عبر هاتفه، بأن يغادر والده مع زوجته إلى تركية، وأن هناك من ينتظرهم على الحدود، وكلّ شيء جاهز، وأن لا يقلقوا، ولا ينشغلوا به، عليهم حماية طفله، وهناك من ينتظر لمساعدتهم، وقريباً سيأتي لزيارتهم إن كتب الله له ذلك.
لم يفكر أبو أيمن يوماً بأنه سيغادر قريته، وهو القائل بأنه سمكة بحرية تموت إذا أخرجت منه ونفيت إلى اليابسة ..كل أسرته هاجرت وغادرت، منها إلى تركية، ومنها إلى أوربا، ومنها إلى أفريقيا، وبقي ينتظر أيمن ليرحّله، ولكن أيمن قرر الصمود والبقاء والدفاع عن المدنية التي رفضت إحدى عوائلها الغنية أن يصاهرها، ولكنه صاهرها، وها هو يدافع عنها، ويذود عن حياض ما تبقى من سكان المدينة .. صاهرها بنخوته وغيرته على أبناء جلدته، لقد ظل يدافع عن البلد التي شهدت ربيعاً قبل عقود، وشهد والد أيمن معها احتفلات الوحدة، وشهد معها أزمات الثمانيات، ولكن اليوم ما يشهده لا يمكن وصفه، ولا يمكن التعبير عنه بكلمات، وصعب أن يكرره الزمان أو أن يسبقه حدث مثيل …
توقف الشيخ عباس بعد عدة أمتار ثم قال للشاب:
- قلبي لا يطواعني
أراد الشيخ عباس أن يكمل حين التفت إلى الخلف ولكنه عدل عن رأيه حين رأى الطفل يلصق ركبيته ببعضهما البعض فقال للطفل:
- يا بني، يمكنك أن تريح نفسك، أراك متضايقاً.
نظر الطفل في وجه الشاب الذي أومأ بالموافقة، فقفز من فوق الشاب وخرج إلى خلف كومة من الحجارة وطفق يبول. تشجع الشيخ عباس وقال للشاب :
- الحاجز الأخير مزعج، لا أريد أن أخسرك أمام عيني، قلوبهم غلف، لا تفهم إلا القتل، عقولهم منحرفة، لقد قطعوا رأس عجوز أمام أعين أسرته لأنه ساعد أحدَ رجالكم . رأيت كيف سلبوا ماله وبيته وعرضه ولم أقدر على فعل شيء، كنت أنقل أحد أصدقائك صديقَك الذي بُترت قدمه وهو متخفٍّ بثوب امرأة. يضعون جماجم رفاقكم مثل الفوانيس.
تطلع الكهل في وجه زوجة ابنه مخافة أن تتأثر بما يدار من حديث، أشارت أن لا بأس، لقد اعتادت على مناظر الروؤس، مع أنها وقعت طريحة الفراش حين كانت عروساً لما طلبت منها حماتها نتف ريش دجاجة ذبحت أمامها، لقد اعتادت على هذه المناظر حين قدمت القرية التي شهدت صراعاً مستميتاً بين جماعتين تتشابهان في الشكل وأكل الطعام وتتكلمان لغتين مختلفتين. لقد رأت كيف تُقطع الرؤوس وتتدحرج، رأت كيف بُترت أوصال أحدهم لأنه أعلن تمرده عليهم، رأت كيف سلخوا بهلول القرية لأنه مد لسانه عندما رآهم يتعبدون بأحذيتهم. لم تعد تلك المناظر قاسية وغريبة، كانت رائحة العطور والشمس والألوان هي الغريبة، كانت ملتفة بالسواد، ولا ترى إلا الأسود تتوشح به النساء والأشياء كان لا يهمها في تلك اللحظة إلا الإسراع واجتياز الحاجز الأخير، لتصل إلى الباب التركي، حيث سيستقبلها رفاق زوجها. كانت لا تريد أن يولد طفلها في مكان أطلقت عليه اسم التنور الأسود. كانت ترى المنطقة قد تحولت لتنور كبير أسود من شدة لهيبه. الحواجز الست كانت شاقة لها، يتفقدون الحقائب، ويتفقدون وجهها من خلال الحاجز الأسود الذي تلقيه على وجهها، تذكرت زوجها أيمن، حين قال لها إن القرية ليست كالمدنية، يمكنها أن تكشف عن وجهها وهي معه في الحقل أو في باحة الدار الواسعة، وأن الحواجز المادية ليست مهمة، بل الأهم هو تخطي الحواجز الفكرية، تلك الحواجز التي تمنع تواصل البشر مع البشر. ذكرها بذلك الشيخ عباس حين قال للشاب :
- مهمتي أن أكون خليفة الله في الأرض، وكل واحد منا هو خليفة الله في الأرض، مهمتنا إعمار الأرض لا هدمها، هؤلاء ليسوا إلا سلالة البشر الذين قالت عنهم الملائكة فسدة وسفكة. كم عمر الفتى؟
- عشر سنوات .
- لقد سلخوا طفلاً يكبره بعامين لأنه تلفظ كلاماً لا يليق، افرض انهم أمسكوا بك، هل يتركون الطفل؟
عاد الطفل مسرعاً، صمت الشيخ عباس، انتبه لحركة المرأة تُخبر الكهل بأن يسرع, فقال الكهل:
- شيخ عباس، نحن تأخرنا كثيراً.
انطلقت السيارة تراعي وضع المرأة الحامل التي كانت تُحدّث نفسها بأن الشاب يحمل شيئاً ما في صدره، ربما سيقف عند الحاجز ويترجل وينسف الحاجز، أبعدت ذلك الشعور عن رأسها وهي تفكر بالطفل الذي يفصل بينها وبين الشاب، ربما سيقول لها الشاب خذيه معك، إنه أمانة، كما حدث أن أسرّ لها عند الحاجز السابق عندما ترجل الكهل والسائق الشيخ عباس وتكلما مع مسؤول الحاجز ما قبل الأخير الذي كان يُظهر المودة للشيخ عباس، قال لها بصوت خافت، بأنّ الطفل لا أهل له، قتلوا جميعاً، فإن أصابه مكروه فهو أمانة عندها. كانت تتخيل أن الحواجز رملية، يمكن هدمها بالماء الطاهر، ولكنها حواجز سوداء قاسية كأنها منحوتة من تلك الصخرة البازلتية، كنت ومن الرؤوس المقطوعة تزين أبراجها، وها هم يقتربون من الحاجز الأخير..
خفف الشيخ عباس من سرعته حين تبين حاجز أسود على طرفيه مسلحون مصبغون بالسواد، وقال:
- ها قد وصلنا.
اختلست المرأة من وراء الستار الأسود نظرة، فرأت الشاب يداعب رأس الطفل بيده اليمنى ويطبق على صدره بيده اليسرى، ويقلب نظريه بين السهول عبر النافذة نظرة مودع بلا عودة.