ككل الأحداث التاريخية المهمة فإن للحرب مستويين.. المستوى الأول ويمثل الجزء المعلن من الصراع (أسبابا وأهدافا وأدوات وتحالفات وخططا ومشاهد يومية وأخبار عاجلة) وهو الذي يشكل محور اهتمام المتابع العادي للحدث أو المحترق بنيرانه أو المتفاعل معه عاطفيا وانسانيا، والمستوى الثاني ويمثل عمق الصراع وجوهره ودوافعه وخلفياته وأهدافه البعيدة وهو الذي يشكل محور اهتمام المفكرين والاستراتيجيين والمخططين والحاملين لهموم أمتهم الطامحين لاستعادة مجدها.
تشكل الدماء والاشلاء والدمار والنيران والقذائف والأسلحة وصراخ الأمهات وبكاء الأطفال واحتلال المدن والاعلام الميداني الاطار الأبرز والصورة الأكثر تأثيرا للحروب ، وتخطف هذه المشاهد الأبصار إلى درجة يعتقد فيها الناس أن احتلال المدن والسيطرة على قرارها هو الهدف النهائي للحروب ، والحال أن هذه المشاهد ليست سوى واجهة الصراع وأدواته وصورته الخارجية ، أما الصراع الحقيقي فهو صراع الثقافات والحضارات والايديولوجيات والأفكار والتي تشكل عمق القضية و جوهر الحروب ومحركها الأساسي ( دون أن نهمل الجانب الاقتصادي كسبب من الأسباب المهمة لحدوث الصراعات ) ويمكننا القول أن المؤشر الحقيقي للنصر أو الهزيمة في معظم الحالات هو المؤشر المرتبط بالمستوى العميق الجوهري لا بالمستوى السطحي المعلن . وعليه فإن خسارة الأرض وموت الرجال ودمار الأسلحة وخراب العمران لا يمكن اعتبارها هزيمة في المنظور الاستراتيجي ما لم يتبعها دمار مماثل في البنية الفكرية واللحمة الأيديولوجية والجسم الثقافي للطرف الخاسر.. إن قدرة الطرف المهزوم على الحفاظ على قواعده الفكرية وكياناته الثقافية وبناه الايديولوجية سليمة معافاة منظمة ومتماسكة يجعل من هزيمته مجرد خسارة لمعركة ميدانية مرحلية.. وبالمقابل فإن تهالك البناء الفكري والثقافي الداخلي لمجموعة ما وضياع هويتها وفقدان الشخصية الحضارية لمجتمعها هو خسارة كبيرة في المنظور الاستراتيجي حتى لو نجحت تلك المجموعة بالحفاظ على الأرض والامساك بالسلطة مؤقتا.. ولا يتوقع لمثل هذه المجموعة أن تحقق نصرا استراتيجيا على عدوها يوما ما طالما فشلت في بلورة صورة واضحة لشخصيتها الثقافية والفكرية والأيديولوجية وتحديد مرجعيتها الأخلاقية وربط جميع أفرادها بنواة مركزية جامعة وجاذبة وهادفة وعقلانية.. إن الهزيمة الحقيقية – وربما النهائية – هي الهزيمة النفسية التي تقود إلى حالة من التفكك العقائدي والتقهقر الفكري والانكفاء الثقافي والاستسلام الحضاري أمام العدو.. من أجل ذلك كله يسعى المنتصر في المعركة الميدانية دائما إلى تشويه ثقافة خصمه وتفكيك ايديولوجيته وشيطنة اعتقاداته وتجريم الانتساب اليها وتحريم الايمان بها أو الدفاع عنها، في ذات الوقت الذي يحاول فيه فرض ثقافته وأفكاره وايديولوجيته عبر الوسائل الكثيرة التي يمتلكها المنتصر للتأثير على المجتمع، وهنا تكمن الخطورة..
ما حصل في سورية هو صورة مصغرة – لكنها شديدة الوضوح – عما يحصل في المنطقة ككل، ولاحقا في العالم الإسلامي البعيد عن المنطقة.. فقد تفاعل جزء كبير من العالم ظاهريا بشكل إيجابي مع الحراك السوري في بدايته باعتباره ثورة شعبية ضد نظام مجرم فاسد لكنه سرعان ما غير موقفه وانتقل لدعم الأسد والحفاظ على نظامه بأي وسيلة عندما بدأت ملامح قوة إسلامية ميدانية تلوح في الأفق، الأمر الذي يشكل خطا أحمرا استراتيجيا لدى القوى العالمية وأدواتها في المنطقة.. إن مجرد التفكير بوصول أي مجموعة إسلامية التوجه لمركز القرار يشكل لدى الغرب هاجسا كبيرا يمس جوهر القضية وعمقها.. فالغرب لم ينس المعجزة التي حققها الإسلام في هذه المنطقة والتي هددت بأفول حضارته يوما ما.. إن القوة الحضارية الكامنة في هذا الدين والقادرة على نفخ الروح في جسد الأمة المتهالك – عندما تحين اللحظة التاريخية المناسبة – هو جوهر الصراع وعمقه من وجهة نظر الغرب وأدواته وهي المستهدف الحقيقي في أي حرب يشنها الغرب مباشرة أو بالوكالة على امتداد العالم الإسلامي.. ما يحصل في المنطقة في حقيقته ليس إلا فصلا متأخرا من فصول المعركة التاريخية التي لم تتوقف يوما والتي بدأت أولى حملاتها عام 1095 م وما زالت حملاتها تترى حتى يومنا هذا بأقنعة مختلفة وخطاب مختلف وأدوات أشد تعقيدا وعقول أكثر دهاء.. لقد نجح الغرب – وهذا يحسب له – في تطوير أدواته والتغلغل في عمق المنطقة وامتلاك الكثير من مفاصل القوة ومراكز القرار فيها واللعب على التناقضات الداخلية التي تفتك بجسدها من الداخل، الأمر الذي مكنه من إدارة المعارك من بعيد عبر أدواته الكثيرة في المنطقة، وهو اليوم في طور الانتقال إلى المرحلة التالية الأشد خطورة وهي مرحلة تفكيك الأيديولوجية الإسلامية وتمزيقها من الداخل واقتلاع جذورها في محاولة منه للوصول إلى الحملة الأخيرة التي يعلن فيها موت المارد ودفنه وانتهاء معركته التاريخية معه.. ولن ينجح.. يشاركه في هذه المهمة الكثير من الشخصيات والفئات والجهات المحلية التي ارتبطت مصالحها بالغرب وجوديا ، أو تلك التي تختزن في داخلها حقدا تاريخيا على الإسلام ، أو تلك التي لا يمكنها الاستمرار دون حماية الغرب ودعمه ، أو تلك القوى المأجورة التي تعمل لصالح الأقوى والأكثر قدرة على الدفع ، أو تلك الفئة التي انبهرت بالنموذج الغربي وصدقت أن الغرب يسعى لنقل تجربته – الناجحة في جوانب منها – إلى بلادنا … مع أن كل التجارب تثبت أن الغزو الثقافي الغربي لا يهدف الى تصدير الديمقراطية وحقوق الانسان والنهضة التكنولوجية إلى بلادنا وإنما يهدف إلى تفكيك ثقافتنا وتشويه تاريخنا واستئصال مواقع القوة في مجتمعاتنا وزرع اليأس في عقولنا .. إنه ليس محاولة من الغرب لتحويلنا إلى مجتمع علماني بنظام ديمقراطي حقوقي وإنما محاولة منه لتحويلنا إلى قطيع استهلاكي فارغ من أي محتوى فكري أو مخزون حضاري يسهل التحكم به واستخدامه عند الضرورة.. وهذا هو الهدف النهائي من الصراع التاريخي الذي لم يتوقف..
ومن أجل تحقيق هذا الهدف يركز الغرب – بمشاركة أدواته – كثيرا على ضرب أي مؤسسة إسلامية ناجحة أو مرجعية فكرية مؤثرة جماهيريا أو سياسيا أو اقتصاديا أو عسكريا، ويحاول تفتيتها من الداخل وتشويه صورتها واستعداء الجيوش وأبناء مجتمعها عليها عبر أدواته الإعلامية والسياسية والعسكرية حتى لو كانت هذه المؤسسة براغماتية لأعلى درجة ووصلت إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع النزيهة وتمتلك حاضنة شعبية قوية.. فالمبادئ هنا لا تعني شيئا في ميزان السياسة الغربية ولا بأس من التحالف مع أعداء تلك المبادئ ومع الطغاة والفاسدين والمجرمين لإسقاط تلك القوى الناشئة ومحاصرتها قبل أن تكبر وتتمكن وتستقر.. خاصة بعد تجربة العدالة والتنمية في تركيا التي أبهرت العالم في نجاحها وتوازنها وقدرتها على النهضة ببلدها والتي يخشى الغرب كثيرا من تمددها الى بلدان إسلامية أخرى والنظر إليها كنموذج ملهم، ولذلك يسعى جاهدا – بمساعدة أدواته – لإسقاط تلك التجربة واجهاضها ووضع حد لإنجازاتها المتتالية..
ضمن هذا السياق يمكننا تفسير الكثير من الأحداث السياسية والثقافية والفكرية والإعلامية التي تعصف في المنطقة من موريتانيا إلى الخليج ومن السودان إلى تركيا في الفترة الأخيرة.. وضمن هذا السياق يمكننا أن نفهم خلفيات الهجمة الشرسة التي تعرضت لها العديد من القوى الإسلامية السياسية والعسكرية والثقافية الوازنة والمتماسكة والمؤثرة في المنطقة.. وضمن هذا السياق يمكننا فهم الإمكانات الهائلة التي جندت لإجهاض الربيع العربي ومنع وصوله لأهدافه النهائية في التحرر من الاستبداد والفساد.. وضمن هذا السياق يمكننا أن ندرك سبب التعاون الكبير بين قوى ومجموعات – غير متجانسة وغير منسجمة – ولا يجمع بينها سوى هذا الهدف الضخم المشترك المتمثل بمحاولة منع أي قوة إسلامية من الوصول إلى مراكز القرار أو منع استقرارها فيه.. ولعل من المدهش والمحزن والخطير في آن واحد أن الأمر تجاوز مرحلة ضرب المؤسسات والكيانات ومحاصرتها ليصل إلى استهداف الشخصيات الدينية المرموقة المؤهلة أيديولوجيا وجماهيريا لتشكيل نواة مشروع نهضوي مستقبلي، واستهداف المرجعيات الفكرية التي تجاوزت حدود التقسيمات البينية الضيقة والخلافات الأيديولوجية التافهة والصراعات الداخلية التي لا تخدم سوى أعداء الامة ووضعتها خلف ظهرها في محاولة منها للاستفادة من كل كفاءات الامة بما يخدم مشروعها الحضاري.. الأمر الذي يوحي بأننا مقبلون على مرحلة خطيرة جدا تختزن في داخلها أحداثا مهمة سيكون لها أثر الزلزال على مجتمعاتنا، والتي من شروط نجاحها غياب أي مؤسسات أو كيانات أو حتى شخصيات قادرة على التصدي لتلك الأحداث وامتصاص الصدمة الناجمة عن هذا الزلزال وتحريك الشارع الإسلامي وتحريضه وحشده لإفشال تبعات هذه العاصفة التي تحاول اقتلاع الشجرة من جذورها.
ومع أنني لا أحب التشاؤم والتهويل.. ومع أنني مقتنع أن الثقافة والأخلاق والايديولوجيا متغلغلة في أعماق وجدان شعوبنا ومن الصعب جدًا اقتلاعها، إلا أن تراكم الأحداث وتعاقبها على كل المستويات في منطقتنا يدفعنا دفعا للاعتقاد بأن العقود – وربما السنوات – المقبلة ستشهد هزات أيديولوجية عنيفة وزلازل فكرية عميقة يحاول فيها أعداء الامة استهداف القواعد وضرب البنى والتشكيك بالمسلمات وتهشيم المرجعيات وتشويه التاريخ.. سينتقل أعداؤنا من التلميح إلى التصريح ومن قطع الاغصان إلى ضرب الجذور.. ستشهد المرحلة المقبلة تغريبة ثقافية ممنهجة ومتعددة الوسائل والأدوات.. وسيتم تكريس الاعلام والفن والحوارات ووسائل التواصل الاجتماعي لتحقيق هذه الغاية بمساعدة جيش من المعممين المأجورين.. ستبرع وسائل الاعلام بنقل الأفكار الشاذة والفتاوى المضحكة والسلوكيات الغريبة والتصرفات المنافية للقيم والمبادئ والأخلاق السائدة.. وستجرى اللقاءات وتعقد المنتديات وترفع المنابر لشخصيات همها الأساسي التشكيك بالمسلمات وتكذيب البديهيات والسخرية من القيم.. وسيعمد الفن إلى تسويق تلك الأفكار والسلوكيات كممثل مفترض لثقافة المجتمع.. ونتيجة لذلك سيشعر المسلم المثقف الواعي الغيور على أمته وبلاده بطعم الغربة الحقيقي داخل بلده وفي مجتمعه، وسيجد صعوبة بالغة في التأقلم مع المستجدات التي ستطال دائرته الضيقة فضلا عن مجتمعه وثقافته العامة..
أمام هذا المشهد السوداوي للمستقبل القريب، ما الحراك المطلوب لاستيعاب تلك الهجمة واجهاض مفاعيلها وافشال أهدافها؟؟
لا يمكننا مقاومة هذه العاصفة – القادمة لا محالة – في الوقت الحاضر بمعركة تقليدية، لأن الجهات التي تقف وراءها – دوليا وإقليميا – ضخمة ومتمكنة إلى درجة يصعب معها الانتصار عليها عسكريا أو سياسيا، ولأن عدم تكافؤ القوى كبير إلى درجة يصعب التغلب عليه بفارق الإرادة والعزيمة والحماس والايمان بعدالة القضية، ولأننا مفككون من الداخل وليس لدينا قيادة مركزية أو مرجعية نتفق عليها لقيادة المعركة.. ولا يمكننا انتظار صلاح الدين المعاصر وكلنا نعلم أن الظروف الراهنة – داخليا وإقليميا ودوليا – لا تبشر بظهوره.. ولا يمكننا أن نكتفي بإلقاء اللوم على أعدائنا – الأقوياء فعلا – والتركيز فقط على إجرامهم بحق شعوبنا ومؤامراتهم ضد بلادنا وثقافتنا، ثم نستسلم لليأس وننزوي ونكتفي بمراقبة المركب وهو يغرق.. نتحمل كورثة لتلك الحضارة العظيمة مسؤولية كبيرة في الدفاع عنها والحفاظ عليها.. ونتحمل جزءا كبيرا من المسؤولية عن المآلات التي وصلنا إليها.. فنحن الذين أفسحنا المجال – عبر خلافاتنا التافهة وحروبنا البينية العبثية وعدم مواكبتنا للتقدم العلمي والتكنولوجي – أمام عدونا للتغلغل ضمن صفوفنا والعبث ببيتنا الداخلي حتى أصبحنا عراة مكشوفين – ثقافيا واجتماعيا وسياسيا – أمام أعدائنا فسهلنا بذلك مهمته باللعب على تناقضاتنا واحداث الشرارة اللازمة في المكان المناسب لحرق أرضنا بقرار منه وفي التوقيت الذي يخدم مصالحه وأجنداته..
من أجل ذلك كان لا بد من العمل على منع أعدائنا من تحقيق نصر استراتيجي بعد أن نجح بتحقيق نصر مرحلي وذلك من خلال إعادة ترتيب البيت الداخلي وهيكلته من جديد بما يضمن المحافظة على الكيانات الفكرية والبنى المعرفية قوية متماسكة إلى الحد الذي يمنع تمييع الشخصية الحضارية للأمة.. لا يمكن للأفراد متفرقين مهما زاد عددهم أن يقاوموا مشروعًا كبيرًا له أهداف محددة وقيادة مركزية. إن مقاومة المشروع الذي تتبناه جهات منظمة يحتاج إلى جماعة منظمة بقيادة مركزية تحمل مشروعًا متكاملًا يناهض المشروع الأول ويبشر بمشروع بديل أفضل منه. من أجل ذلك فإن المسؤولية الكبرى تقع على قادة الكيانات والأحزاب والمؤسسات الإسلامية الموجودة أصلًا والتي نجحت بالحفاظ على تماسكها الداخلي والوصول إلى مواقع القرار في بلدانها ومناطقها وكسب ثقة الجماهير المؤمنة بمشروعها. وتتجسد مسؤوليتهم بالعمل على تدعيم الكيانات الموجودة داخليا – فكريا وتنظيميا – وحمايتها من التفكك المتوقع تحت ضغط العاصفة التي تجتاح المنطقة، وتطويرها وتحديث خطابها بما يتلاءم مع مستجدات العصر وافرازات الواقع، ونشر الوعي بين الجماهير – بكافة الوسائل المتاحة – حول خطورة المرحلة القادمة وضرورة الصمود في وجهها مهما كان الثمن، والعمل على استقطاب الكيانات الصغيرة واحتوائها، وفتح قنوات التواصل والتنسيق العميق مع كافة الكيانات الإسلامية الأخرى في المنطقة والقوى المتعاطفة معها.. وذلك بهدف المحافظة على نوى جاهزة لإعادة التجمع والنهوض من جديد لاستعادة الدور الأخلاقي الحضاري للإسلام عندما تتوفر الظروف الملائمة لذلك.. هذا الهدف يتطلب من قادة الكيانات درجة عالية من الوعي والاستعداد للتضحية ونكران الذات وتجاوز المصالح الشخصية والمناطقية والقفز على الخلافات الفكرية والمذهبية الضيقة والتافهة لصالح المشروع الإسلامي الأخلاقي الواسع القادر على جذب جميع فئات المنطقة – مسلمين وغير مسلمين – ممن يرفضون الهيمنة الغربية على بلادنا وتحكم الطغاة بها..
أما على مستوى الأفراد والشخصيات التي تحمل الهم الإسلامي و تطمح باستعادة الدور الحضاري لأمتها دون أن تكون منضوية تحت جناح التنظيمات والأحزاب فمسؤوليتها الأساسية تتجسد بدعم تلك الكيانات – ماديا ومعنويا واعلاميا – وحضها المتكرر على الاستمرار والتماسك والتوحد، ونشر الوعي الاجتماعي وإظهار الانتماء والالتزام العميق بالجانب الأخلاقي للدين والابتعاد عن التطرف الفكري والفكر الإقصائي والسجالات الفارغة..
ربما نفشل عبر هذا التكتيك بتحقيق انتصار آني ومرحلي، لكننا سننجح دون شك بتحقيق خطوة استراتيجية مهمة لتجاوز هذا المفصل التاريخي الصعب والالتفاف على كل المحاولات لخنق هذه الأمة وتعليق رأسها على مشنقة التاريخ.
إن الأمة التي تسير وليس في جعبة أبنائها مشروعا حضاريا يشكل بوصلة حركتها ومؤشر تقدمها ودافع نهضتها والحلم الذي يفجر طاقاتها الكامنة ويلامس مشاعرها بما يكفي لدفع أبنائها للتضحية في سبيل تحقيق أهدافه البعيدة سيكون مصيرها الحتمي مزبلة التاريخ.. وهذه الأمة التي غيرت مسار التاريخ ورسمت أنصع لوحاته اشراقا لن تقبل رغم ضراوة المعركة وقساوة الهجمة وشراسة العدو أن يكون مصيرها الاندثار والأفول.. ربما تضعف.. وربما تخسر معركة تلو أخرى.. وربما يطول رقادها.. لكنها حتما لا تموت.. لماذا ؟؟.. لأنها تحمل مشروعا أخلاقيا إنسانيا يتحرك في أروقة السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة وميادين الحروب بهامش أخلاقي كبير وقيم إنسانية رفيعة تهذب حركته وتؤنسن سلوكه.. تلك القيم التي تتعالى عن عالم المادة المحكوم بقوانين الزمان والمكان والظروف.. القيم التي تشبه الشمس.. محلها في السماء ونورها ودفء أشعتها تملأ الأرض وتجعل الحياة فيها ممكنة.. يمكنك أن تحجب أشعتها عنك وعن بيتك، لكن يستحيل أن تطفئ جذوتها وتحجب نورها عن كل الناس.. لست رومانسيا عندما يتعلق الأمر بالتحليل والتفكيك والتركيب وسبر أغوار المسائل، ولا أحب أن أهرب من الوقائع الأرضية للاحتماء بالقوانين الغيبية، لكنني أجد نفسي مدفوعا للقول وبنوع من التحدي.. لو كان الإسلام صناعة بشرية فإن مآله دون شك – أمام الضربات المتتالية المنسقة والمدروسة والقوية – إلى السقوط والافول والاندثار وفقا لقوانين المادة وموازين السياسة، أما وأنه مشروعا سماويا فهو خارج عن إطار الزمان والمكان وقوانين المادة، فلا الأرض قادرة على دفنه لأنه لم يخرج من أحشائها، ولا الزمان قادر على تجاوزه لأنه متعال عليه، ولا المكان قادر على تحجيمه لأنه محيط به.. الإسلام كائن سماوي لا يمكن لأهل الأرض قتله ودفنه في تربتها.. ودفاعنا عنه ليس خوفا عليه من الأفول وإنما خوفًا على قلوبنا من الذبول، وانسجامًا مع ذواتنا وانتصارا للحق والحقيقة في داخلنا ودفعا لتغول المادة على الأخلاق في مجتمعنا.