لا تبدو العلاقات الأميركية – الروسية متجهة نحو التحسّن، بل إنها تواصل الابتعاد عن احتمالات التوافق والتقارب، بدليل أن أعضاء في الكونجرس يطالبون بفرض مزيد من العقوبات على روسيا بسبب تدخلها في الانتخابات الأميركية، ثم إن الملفات، التي أُعلن أن مستشار الأمن القومي جون بولتون قصد موسكو لمناقشتها، معروفٌ مسبقاً أنها خلافية جداً، ومنها مسألتا كوريا الشمالية وأوكرانيا فضلاً عن سوريا. وقد أضيف إليها أيضاً اتفاق عام 1987 لإزالة الصواريخ النووية والتقليدية القصيرة والمتوسطة المدى، إذ تعتزم الولايات المتحدة الانسحاب منه بعد اعتراضات متكرّرة على خرقه من جانب روسيا التي «تواصل إنتاج ونشر صواريخ كروز محظورة وتتجاهل دعوات إلى الشفافية». وكان الملف السوري الأقل تأزّماً بين الدولتَين، إذ دعمت واشنطن الدور الروسي وفقاً لتفاهمات سياسية وتنسيقات عسكرية معظمها غير معلن، لكن الجانب الأميركي تشدّد في الآونة الأخيرة في ضرورة تعاون روسيا في إخراج إيران وميليشياتها من سوريا.
كان الرئيس فلاديمير بوتين تطرّق مرّة واحدة إلى الوجود الإيراني في سوريا خلال مؤتمر صحفي في 2017 وقال إنه «بطلب من الحكومة السورية»، وهو ما دأب المسؤولون الروس على ترديده ولم يكن قد سبق لدمشق أو طهران أن أشارتا يوماً إلى إبرامهما أي وثائق في هذا الشأن، لكن لوحظ أن النظامين تبنّيا لاحقاً عملية «تشريع» علاقتهما/ تحالفهما. وقبل أيام، في «منتدى فالداي» السنوي الذي ترعاه الحكومة الروسية، كانت إجابات بوتين عن أسئلة تتعلّق بإيران لافتة بوضوحها: إقناع إيران بالانسحاب من سوريا ليس مهمتنا نحن 100 في المئة، ويمكن أن يتمّ باتفاق بين دمشق وطهران من دون أن يكون لروسيا دور. ففي مناقشاتنا مع إيران نجحنا في حل بعض المشاكل ومنها سحب أنظمة السلاح الضاربة من الجولان. أما تخلّي دمشق عن خدمات حلفائها، ومن بينهم إيران، فيشترط توفير ضمانات أمنية لسوريا بعدم التدخل في شؤونها والتوقف عن تمويل الإرهابيين والاعتماد عليهم لتحقيق أهداف سياسية.
يُجمل الرئيس الروسي موقفه بخلاصة عامة هي «ضرورة انسحاب كل القوات الأجنبية» من الأراضي السورية، وهذا يعني الولايات المتحدة بشكل خاص، طالما أن الوجودَين الروسي والإيراني يتمتّعان بـ «شرعية» نظام بشار الأسد، وباعتبار أن الوجود التركي في الشمال الغربي بات عقداً «من الباطن» مع روسيا. من المؤشرات المؤكّدة للتنافر الأميركي – الروسي أن واشنطن تخلّت عن مشاريع للانسحاب التلقائي من سوريا وكان الرئيس دونالد ترامب أعلنها بنفسه في وقت بدا أن أميركا منحت روسيا تفويضاً شبه كامل في الملف الروسي. بدل الانسحاب أصبح بقاء القوات وتعزيزها في شمال شرقي سوريا يمثّل عنواناً لسياسة أميركية «جديدة» حتى أن أوساط المعارضة السورية والأكراد تتدارس «بتشجيع أميركي» الاتفاق على كيانية خاصة للشمال تمكن المحافظة عليها والدفاع عنها إلى أن يرتسم حلٌّ سياسيٌ مقبول.
لا شك أن مواقف بوتين تضمنت رفضاً للاستراتيجية الأميركية لاحتواء إيران، ولعله يستند إلى التعارض الأميركي -الأوروبي في شأن الاتفاق النووي والعقوبات، غير أنه بالنسبة إلى سوريا تحديداً لا يستطيع تجاهل بعض الإشكالات المتعلقة بإيران وقد لمستها القوات الروسية على الأرض. فمن ذلك مثلاً أن موسكو حدّدت لنفسها هدفاً هو إنهاء الحرب لكن إيران ترى مصلحتها في استمرار القتال حيثما كان متاحاً لتبرير وجود ميليشياتها. الهدف الروسي الآخر هو التوصّل إلى حل سياسي، وهناك توافق مع طهران على الاعتماد على وجود الأسد وإحباط أي حل لا يكرّس بقاءه، لكن موقف الطرفين مرشّح للافتراق على المدى البعيد إذا ما وجدت موسكو أن بقاء الأسد بعد انتهاء ولايته في 2021 لا يخدم الحلّ وإعادة الاستقرار.
لا تزال روسيا تعرض صفقة «عودة اللاجئين + إعادة الإعمار» لاجتذاب المساهمات المالية الغربية، ولم يعد خافياً أن ثمة شروطاً لهذه المساهمات، وأبرزها اثنان: حلّ يتضمن تعديلاً في بنية النظام وسلوكه، وبتّ مصير الوجود الإيراني. فالأوروبيون الذين يعارضون احتواء إيران على طريقة ترامب لا يؤيّدون دورها في سوريا. من هنا أن إخراج إيران ليس مجرد تلبية لرغبة أميركية أو أوروبية، أو طرحاً اختيارياً يُقبل أو يُرفض، بل خطوة لازمة وضرورية لإنهاء الأزمة السورية. أما «الضمانات الأمنية» فإذا لم يكن الوجود الروسي قادراً على توفيرها، فمن يقدر؟ واقع الأمر أن بوتين أراد إبلاغ واشنطن أن إخراج إيران من سوريا يعنيه في حال واحدة فقط، أن تكون هناك صفقة ثنائية في شأنه.
المصدر: الاتحاد