حملت تصريحات السيسي الأخيرة بخصوص إعادة إعمار سوريا، رسالة مزدوجة. وفيما يمكن الاتفاق على أن الشطر الثاني منها كان موجهاً للمصريين، لتذكيرهم بعواقب “النموذج السوري”، نستطيع أن نتلمس بوضوح رسالة أخرى موجهة للنظام السوري، تحديداً في الشطر الأول من تلك التصريحات.
لذلك كان فريق من النشطاء الإعلاميين مُحقين في توصيف تصريحات الرئيس المصري، بأنها “سخرية” من طموح بشار الأسد في تمويل دولي لإعادة إعمار سوريا. إذ لا يمكن أن يكون هذا النوع من التصريحات المعنية بالسياسة الخارجية، مرتجلة. بل هي تعبير عن توتر بين النظامين المصري والسوري، رغم التقارب الذي حدث بينهما في الآونة الأخيرة.
وما يؤكد ذلك، رد فعل النظام السوري، الذي مرّر عبر السلطة التشريعية الخاضعة لسيطرته في دمشق، إهانة مباشرة لشخص الرئيس المصري. إذ طالب عضو في مجلس الشعب السوري وزارة الخارجية باستدعاء القائم بالأعمال المصري في دمشق، بعد تصريحات السيسي، معبراً عن أسفه لـ “صدور مثل هذه التصريحات من رئيس بلد يضربه الإرهاب كما يحدث في سورية”. فكان رد رئيس مجلس الشعب، على مداخلة زميله، بالقول إن “الشارع العربي أصبح كاشفاً لمثل هذه الشخصيات المزيفة” في إشارة إلى الرئيس المصري. وهو تصريح لا يكمن أن يكون بدوره، مرتجلاً أيضاً، بل هو تأكيد لحالة التوتر بين نظامي الحكم في البلدين.
هذا التوتر سبق أن ألمحت إليه وسائل إعلام موالية للنظام السوري، خلال الأشهر القليلة الفائتة، على خلفية مساعي النظام لإقناع رجال أعمال سوريين مؤثرين بالعودة إلى سوريا. وهم ممن هاجروا باستثماراتهم وأعمالهم إلى مصر، بعد تفاقم الأحداث عام 2011. وقال الإعلام الموالي في سوريا، في أكثر من تقرير صحافي، إن النظام المصري يعرقل جهود نظيره السوري في إقناع هذه الشريحة من المستثمرين السوريين بالعودة.
لكن، لا يبدو أن التوتر بين النظامين السوري والمصري، مرده فقط إلى ما يتعلق بطروحات ومشاريع إعادة الإعمار في سوريا. فقد جاء تصريح السيسي الساخر منسجماً مع سلسلة إجراءات وتصريحات غربية، يمكن اعتبارها تصعيداً ناعماً ضد النظام السوري، بعكس الاتجاه السابق الذي كانت الأمور تسير نحوه.
بدأ الأمر بما أعلنته وسائل إعلام عن رفض الحكومة البريطانية منح الجنسية لزوجة وأبناء رفعت الأسد. وكان التبرير بأنهم أقرباء لـ بشار الأسد، وأن منحهم الجنسية يقوّض سياسة حكومة بريطانيا المعارضة للـ “النظام الدموي” حسب “الديلي ميل” البريطانية.
وفي فرنسا، ورغم استقلالية القضاء الفرنسي، لا يمكن تجاهل تأثير السياسة هناك. لذلك تأتي مذكرات اعتقال أبرز رمزين في الأجهزة الأمنية لنظام الأسد، (علي مملوك، جميل الحسن)، بوصفها رسالة سلبية موجهة للنظام.
التصعيد الناعم، في فرنسا وبريطانيا، ترافق مع تصريحات لمسؤولين أمريكيين تسير باتجاه مغاير لما كان قد صدر سابقاً عن مسؤولين في الإدارة ذاتها. فـ “بقاء” بشار الأسد أصبح مستبعداً اليوم، حسب واشنطن، بعد أن كان ممكناً، قبل أسابيع فقط.
يأتي كل ما سبق في سياق جو عام يسود المنطقة، يتميز بمغازلة قطر في السعودية ومصر، وبتقرّب أمريكي ملحوظ من تركيا، قد يُفسّر بأنه يصب في إطار مساعي الإدارة الأمريكية للفلفة أزمة تصفية الصحافي السعودي جمال خاشقجي، بأقل الأضرار الممكنة على الحكم بالسعودية، وذلك مقابل تنازلات قد تكون نوعية في ملفات من بينها الملف الكردي في سوريا. لكن، إلى جانب ما سبق، يبدو أن هذه فرصة يسعى الأمريكيون لاستغلالها باتجاه تشكيل تحالف نوعي في المنطقة، على أساس العداء لإيران، لتعزيز الضغط عليها، بعد أن فشلت الجهود الأمريكية، حتى الآن، في “تصفير” صادرات النفط الإيرانية لاعتبارات مرتبطة بالخشية من ارتفاع أسعار النفط بصورة مضرّة للغرب نفسه.
تشكيل هذا التحالف، الذي تراهن عليه واشنطن، يتطلب أمرين، كي يصبح نوعياً، بالفعل. الأول، تحقيق مصالحة خليجية تنهي الأزمة القطرية – السعودية – الإماراتية. والثاني، انضمام تركيا إليه، وهو أمر ما تزال أنقرة تؤكد رفضها له. لكن إن كانت هناك مكاسب نوعية للأتراك في سوريا، مقابل انضمامهم لتحالف يعزز الضغط على إيران، هل ستقبل أنقرة ذلك؟ هو سؤال يبقى معلقاً، وتبدو الإجابة عليه بـ “نعم” محتملة بشدة. وقد تكون الساحة السورية من أكثر الساحات التي تجمع مصالح أعضاء هذا التحالف، بنسب مختلفة. فالجميع تقريباً استثمر فيها، لتطيح إيران باستثمارات الغالبية منهم. واليوم، قد تكون تلك الساحة، هي الأنسب للجمع بين مصالحهم، على حساب إيران بالدرجة الأولى.
في خضم كل ما سبق، يبدو نظام الأسد، بوصفه الغطاء الشرعي للوجود الإيراني في سوريا، إشكالية. فالغرب وحلفاؤه الإقليميون، لا يريدون الإطاحة به، وفي الوقت نفسه، يريدون تغيير سلوكه باتجاه الانفصال عن إيران. لذلك، يمكن فهم ملامح التصعيد الناعم ضد النظام، وصولاً إلى تصريح مباشر من الرئيس المصري، حمل سخرية مبطنة من طموح الأسد بتمويل دولي لإعادة إعمار البلد الذي دمره. تصعيد قد تتزايد وتيرته في الفترة القادمة، كلما تصاعدت تداعيات العقوبات على إيران. وبطبيعة الحال، فإن التحالف الأسدي – الإيراني – الروسي، سيقاوم بشدة. وقد يتمثل ردهم في تصعيد عسكري بإدلب، يُسقط اتفاق سوتشي، كردٍ على تركيا بالتحديد، إذا انحازت الأخيرة إلى الأمريكيين في محاولات الضغط الاقتصادي على إيران. ويبقى السيناريو الأخير معلقاً على قرار أنقرة بخصوص التعامل مع ملف العقوبات على طهران، حيث كانت تركيا قبل العام 2015، متنفساً رئيسياً لإيران، في واحدة من أقسى العقوبات الدولية عليها، في ذلك الحين. وكان ذلك أحد ملفات الخلاف الرئيسية بين أنقرة وواشنطن. فهل تسير تركيا في الاتجاه السابق نفسه؟ أم تعكس اتجاهها هذه المرة مقابل مكاسب نوعية في سوريا؟ قد يكون السؤال الأخير هو الفيصل في ترتيب المشهد القادم بسوريا.
أما بالنسبة لنظام الأسد، فعلاقته مع إيران ستكون إشكالية مزدوجة له. فهو لا يستطيع تطبيع علاقاته مع الغرب ومحيطه الإقليمي بالشكل المأمول له، إن أبقى عليها. ولا يستطيع الإفلات من القبضة الروسية المتزايدة على حلقات حكمه، إن هو تخلى عنها. لكن في كل الأحوال، يبدو أن سخرية السيسي من طموحات الأسد هي تعبير عن مقدمة لمسار تصعيدي جديد ضد النظام السوري، كنتيجة لتغيّر نوعي مرتقب في الاصطفافات الإقليمية. وقد تكون سوريا، من جديد، الساحة الرئيسية التي ستتصادم فيها تلك الاصطفافات.
المصدر: المدن