تقول الطرفة: طلب سجين كتاباً من مسؤول مكتبة السجن، فاعتذر الأخير قائلاً إن الكتاب ليس موجوداً لديه، لكن المؤلف شخصياً موجود إن أردته! وهي طرفة تعبّر عن واقع الحال، فلا مجال أمام المثقف العربي، إلا أن يكون سجين السلطة أو سجين الولاء لها، وفي الحالتين تكون الثقافة هي الضحية.
واستكمالاً للطرفة، يصوّب النظام السوري الذي يثري خيالنا على الدوام، العلاقة بين الثقافة والسجن لينقلها من ضفة العداء إلى ضفة التوأمة، ويفتح ضمن سجون الأسد مراكز ثقافية كما يقول الخبر الوارد. ولا تتوقف الدهشة عند إعلان نظام الأسد افتتاح مركز ثقافي بفرعين في كل من سجن عدرا المركزي للرجال وسجن عدرا النسائي، ورفده بألف وخمسمئة كتاب، بل تتعداه إلى النشاط المكثف لوزارة الثقافة منذ شهرين داخل السجن، بعد توقيعها مذكرة تفاهم مع وزارة الداخلية بخصوص الأنشطة الثقافية الخاصة بالسجناء، ومنها إقامة معرض فني لأعمالهم قبل فترة وجيزة، ضمن السجن، وتجواله في المراكز الثقافية في خارج السجن، وأيضاً عبر إقامة عرض مسرحي في سجن النساء.
وقد تختفي الدهشة أو تزيد مع الفيديو المتداول بالتزامن مع حملة نشاط وزارة الثقافة في السجون السورية. ففي الفيديو ثلاثة لقاءات: مع ضابط شرطة، ومرشدة اجتماعية، وسجين. يدهشنا الضابط أولاً بنبرته الأبوية المتسامحة ورفضه لكلمة سجين واستبدالها بكلمة نزيل، وهي مفردة تحيلنا إلى الفنادق وما تنطوي عليه من سياحة وترفيه، وخدمات أخرى، وفي المشابهة المضمرة، ترجح كفة السجن بخدماته المجانية على الفنادق المدفوعة الأجر. وتدعمه المرشدة الاجتماعية بنظرية تحويل السجون إلى دور عرض ثقافية، أو دور للأوبرا على حد تعبيرها. ويكتمل الترويج الإعلاني بالسجين ممجّداً سجنه، ففي ربوع السجن اكتشف مواهبه الكامنة وطاقاته الدفينة، فكتب السيناريو وألّف ديوان شعر، واعداً المشاهدين باحتراف الثقافة بعد خروجه.
وبالعودة إلى الثقافة السورية، فإن روايات “نزلاء” السجن المفضلين، من المثقفين السوريين والأدباء والفنانين، تكشف لنا المعاملة المميزة التي تلقوها في السجون السورية العريقة بسمعتها وخدماتها. وإذا استثنينا “أدب السجون” الذي خصص موضوعه لتبيان تلك الميزات، فقلّما تخلو رواية سورية من حالة السجن كحضور مباشر لإحدى شخصياتها، أو كحضور مضمر عبر الخوف والانزواء، خشية الاستضافة الإجبارية في السجن. وفي السنوات الأخيرة، لم يكن السوريون في حاجة إلى قراءة أدب السجون لمعرفة أسراره وتفاصيله، بسبب العدد الهائل من النزلاء فيه.
على الدوام كان السجن هو الوجه الآخر للسلطة في تعامله مع الثقافة والمثقفين، في محاولة منه لتحطيم الشخصية الثقافية، وإفراغ الثقافة من مضامينها وحامليها. يعرف السوريون جيداً حجم الندوب النفسية والمادية التي حملها الناجون من المسالخ البشرية بعد خروجهم من سجون النظام، فما الذي تغير الآن ليعمل شرطيّا السجن والثقافة معاً، للمرة الأولى، في ملعب واحد، بعدما كان لكل منهما ملعبه وسجنه؟ ما الذي تغير اليوم ليقولا لنا إنهما ينويان تحويل السجن من كسّارة بشرية ونفسية إلى منتجعات فاخرة، ومصانع ترميم إنساني وإبداعي؟
لا شيء تغير بالطبع، خصوصا أنهما الشرطيان المعروفان، لم يتم استبدالهما، ولا تأهيلهما لقبول الآخر، ولا تغيرت القوانين الناظمة لأعمالهما ولا اختلفت المرجعية القائدة لهما. وما زال الضابط الأمني يسير على خطى الكلمة الشهيرة لوزير إعلام النازية الهتلري غوبلز: كلما سمعتُ كلمة ثقافة.. تحسّستُ مسدسي. لكن بالطبع ثمة رسالة أو رسائل شتى يتوخاها النظام سياسياً بمقدار ارتباط الثقافة بالسياسة، وهي رسائل داخلية وخارجية تتصل باعتباراته السابقة ومصيره اللاحق.
إن سعي النظام لتجميل السجون، عدا عن كونها محاولة للإفلات من العقاب المحتمل، تهدف إلى غسل الصورة الوحشية التي التصقت به، وصار من الصعب تجاهلها أو نسيانها، خصوصاً تلك المشاهد الصادمة التي تسربت إلى الإعلام عن ضحايا السجون والمسالخ البشرية. وهل من طريقة أو مكان للبدء بإزاحة الصورة السلبية واستبدالها بالصورة الوردية أفضل من السجون ذاتها؟ فمن مكان الإدانة يتم النفي. هي رسالة كسر للانطباع السائد عنه، أو أقله لخلق الشك في صحة الانطباع القديم، وهي لا تتوسل من الآخر تصديقها تماماً، لكنها إذ تتوجه إلى المجتمع الغربي في المقام الأول، فإنها تتوافق مع الدعوات المطالبة فقط بتغيير سلوك النظام للقبول به من جديد، وهذه إحدى الصور التي يقدمها كدليل على انصياعه للمطلوب.
وفي منحى آخر، فإن الصورة الزاهية للسجون السورية وخدماتها الجديدة كما يصورها النظام، تبسط ظلالها على المساحة الواقعة خارج جدران السجن، وتدفع للقول: إن كان هذا حال المساجين، فأي جنة يحيا فيها من هم خارج جدرانه؟ فتلميع وتلوين النقطة الأشد ظلمة عند النظام السوري، من شأنها أن تحفز الخيال لتصور باقي أجزاء اللوحة بشكل زاهٍ وبرّاق.
ثقافياً وسياسياً، توفر صورة الاهتمام بالسجون، للنظام، مساحة إضافية لتوكيد مقولاته القديمة بأن الحرب السورية هي في جوهرها، نتاج خلل ثقافي في المجتمع. والنظام، في مقابل استعداده لتحمل الملامة على هذه الجزئية، فإنه يكفّر عنها بالانتباه إليها من أجل تفادي تكرارها. ودليله على ذلك، خطواته الجديدة التي تساهم في تحصين بيته الداخلي، كما يدل تحويل سجونه إلى مراكز إشعاع وإبداع، وفق التحديث الأخير.
تتقاطع الصورة، شعورياً، مع الحالة النفسية للنظام بوصفه مارقاً على الصعيد الدولي، وخارجاً عن قانونه. فهو، في إظهاره أن المخطئ والمسيء في نظامه لا يُعاقب بالردع العنيف، بل يُعاد تأهيله وتثقيفه، يتوسل المجتمع الدولي أن يعامله بالصيغة نفسها على الأقل.
استنفار النظام للمظهر الثقافي في السجن، مجرد سهم إضافي يخرجه من جعبته، ويرميه في مهب التداول الإعلامي، لتوظيفه قدر الإمكان، فيما لا يزال يخفي مصير الكثير من الفنانين والمثقفين السوريين في سجونه، ويرفض حتى الإفصاح عن مصيرهم المجهول، عدا عن أسماء المثقفين التي تأكد موت أصحابها تحت التعذيب.
المصدر: المدن